إن جواز ومشروعية التعامل مع البنوك والمؤسسات المالية ؛ إيداعًا وتمويلًا، سواء كانت بنوكًا تجارية أو غيرها
ومدار العقُود على القُصود، والعبرة فيها بمقاصدها ومعانيها، لا بألفاظها ومبانيها؛ ستجدون من يدلل ولا يعلل بأجوبة جاهزة وأيات رادعة ويدخلك إلى النار بدون تعليل .

قبل الإجابة ومناقشة الموضوع لابد من تصور الواقعة لأن الواقعة ركن أساسي في الفتوى، فإن حَدَث خللٌ فيه؛ فإنَّ الفتوى تختل أيضًا، وكما قيل: الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّرِهِ، وأنه لا بُدَّ من إدراك المحكوم فيه إدراكًا كاملا ؛
ومن هنا: باتَ من الضروري تصور عمل البنوك وطبيعتها، وإدراك مقصودها وغايتها فالمجتمع لابد له من مؤسسات مالية لمواجهة التحديات الإقتصادية ودفع عجلة التنمية ورفع شأن الإنتاج والصناعة وزيادة قدرة وتوفير موارد آمنة لأرزاقهم وممتلكاتهم ، وهذا يؤدي إلى النهوض بالمستويات الاقتصادية على مستوى الأفراد والجماعات.
وأن المجتمع الجزائري بفطرته يتحرى الحلال في مناحي حياته بل يتشدد في ذلك مما أصبح عرضة لتجار الدين يقولون له هذا حرام ؟ هذا حرام ؟ ويتبعون كل من يقول له هذا حرام ويتركون كل من يقول هذا حلال بدون تعليل ولا تدليل ولم بقواعد إستنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية.

ونعرف أن السبب في تحريم الرِّبَا.. أنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب؛ لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الرِّبَا من تحصيل الدرهم الزائد نقدًا أو نسيئة، أعرض عن وجوه المكاسب؛ فيختل نظام العالم.. ولأنه تمكين للغني من أن يأخذ مالًا زائدًا من الفقير وتتأكد هذه الحقائق من دراسة مختصين ، التي راعت محددات الرِّبَا القطعية وأسباب فساد المعاملات التي حظرها الشرع الشريف؛ فقامت بخَلْق واقعٍ بديلٍ على العلاقات الرِّبويَّة، ويقوم على إدارة حركة الأموال وتقليبها، حتى وإن لاحَ فيها معنى التربُّح والكسب.وعند تعريفنا للمصطلحات يسهل الحكم عليها.
هل القرض هو بمفهومه الشرعي ؟
بالنظر لهذا الواقع نجد أنه تَرِد إشكالات كثيرة على اعتبار النقود المودعة في هذه الحسابات من قبيل “القرض” بمعناه الشرعي تُخْرجه عن طبيعته وأحكامه المقررة لدى الفقهاء من كونه وسيلةَ دفعٍ وأداةَ وفاءٍ فمن المعلوم أنه بمجرد إيداع العميل نقوده في حسابه البنكي تخرج هذه النقود من مِلكه إلى مِلك البنك وتصبح في ضمانه، بمعنى أنه لا يمكن للعميل رهن أو ضمان أو هبة هذه النقود حال كونها مودعة في الحساب، أو شراء سلعة بضمانها كثمنٍ مؤجلٍ، حتى وإن أمكن ذلك فيكون على صورة عقود ومعاملات
كما أن تكييفها على أنها “قرض” بمعناه الشرعي يرد عليه إشكالٌ ثانٍ باعتبار أن النقود المودعة في الحساب ليست هي عين النقود المضمونة في ذمة البنك؛ فإذا ما سحب صاحب الحساب جزءًا من نقوده المودعة في حسابه مثلًا؛ فبمَ يُكيَّف هذا الجزء المسحوب: هل يعتبر استرجاعًا للمال الذي أقرضه للبنك أو هو قرضٌ جديد أخذه من البنك يرتب عقدًا آخر؟
كذلك يرد على تكييفها “قرضًا” أنه في حال إيداع صاحب الحساب مالًا جديدًا، فهل تعتبر هذه النقود قرضًا جديدًا أو ملحقة بعقد القرض الأول؟
ممَّا يدلُّ على أنَّ هذه البنوك في أصل نشأتها لم تضع في قاموسها العملي قضية “الاقتراض أو الإقراض”، بمعناهما الفقهي الموروث، وإن شاع في تسمية بعض معاملاتها الماليَّة بالقرض؛ لأن المقصود الشرعي من القرض هو الإشفاق والإرفاق في إعانةِ الناس على قضاءِ حاجاتهم وتفريجِ كُرباتهم؛ ولذلك فإنَّ الآيات التي وردَ بها معنى القرض في القرآن الكريم تدل على القرض الحسن الذي يُحسنُ به الموسِر إلى المعسِر؛ ابتداءً (من إعطائه المالَ لسد فاقته)، وانتهاءً (بإنظاره حالَ عُسْرَتِهِ)؛ كما دلَّ عليه قولُ الله تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245]، مع قوله سبحانه: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 280].
وذلك لأنَّ “الإعسار علة الإنظار”.
من هنا جاءت حُرمَة المعاوضة القائمة على النفع في طبيعة هذا الإقراض، خاصَّةً إذا كانت مشروطةً فيه؛ لأنه يخالف مقصودَه، ويكرُّ على مرادِهِ بالفساد؛ لما تقرر أن “كلَّ قرضٍ جرَّ نفعًا فهو رِبًا”؛
وتحريم النفع في قرض الإرفاق، لا يستلزم تحريمه في العقود بإطلاق، فالقرض تبرعٌ يُراد به الإحسان والإبرار، بخلاف المعاملات البنكيَّة التي غرضها الربح والاستثمار، فالأولى من قبيل المسامحة، والثانية من قبيل العِوَض والمشاححة، وما به الشُّحُّ ليس قرضًا، وما فيه البرُّ ليس عوضًا.
فإن قيلَ: إنَّ لفظ “القرض” هو الشائع في المعاملات المالية التي يجريها البنك، حتى من العاملين فيه الذين لم يعتنوا بهذه التفرقة بين اللفظتين، مما يدل على قَرضيَّة هذه المعاملات.
قلنـــا: إنَّ هذا الشيوع في لفظ القرضِ ومبناه، لا يقلب حقيقته ولا يُغيِّر معناه، ومن ثمَّ فلا يؤثر في الأحكام الشرعية المتعلقة به؛ فلا يحكم على هذه المعاملات بأنها من قبيل القرض المُحرَّم لمجرد الإطلاق اللفظي عليها؛ لأنَّ الأحكام إنَّما تناط بحقيقة الواقع الموجود، ومدار العقُود على القُصود، والعبرة فيها بمقاصدها ومعانيها، لا بألفاظها ومبانيها؛
ومن هنا أطلقوا على هذا النوع من المعاملات البنكية “تمويلًا”، ، اصطُلِحَ على تسميتهِ بعقود التمويل، وجعلوه عقدَ معاوضةٍ لا عقدَ تبرع؛ فتطابقَ بذلك الاسم والمُسمَّى، وتوافقَ المبنى مع المعنى.الأعراف التجارية؛ لا الأعراف الشرعية.

ومن هنا أطلقوا على هذا النوع من المعاملات بين البنوك والأفراد “تمويلا ” في البنوك اصطُلِحَ على تسميتهِ بعقود التمويل، وجعلوه عقدَ معاوضةٍ لا عقدَ تبرع؛ فتطابقَ بذلك الاسم والمُسمَّى، وتوافقَ المبنى مع المعنى.الأعراف التجارية؛ لا الأعراف الشرعية.
قد تقرَّر في واقع المعاملات التعاقديَّة: جواز إحداث عقودٍ جديدةٍ من غير المسمَّاة في الاجتهادات الفقهية؛ ما دامت خاليةً من المخاطر أو حصول الغرر أو الضرر، وهي التي عبر عنها الفقهاء بـ “مفسدات المعاملة” و”مفسدات العقود” و”أسباب الفساد” و”مثارات الفساد”؛ وقد فصَّلها العلماء ، في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]؛ حيث قالوا أن هذه الآية، من قواعد المعاملات، وأساس المعاوضات ينبني عليها، وهي أربعة: هذه الآية، وقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، وأحاديث الغرر، واعتبار المقاصد والمصالح] والمعاملات المالية المنهي ، لا تخرج عن ثلاثة (الرِّبَا، والغرر، والباطل)؛فإذا ما انتفت أسباب الفساد العامة في معاملة من المعاملات التعاقدية، وأصبحت محقِّقة لمصالح أطرافها حالًا ومآلًا: صحَّت المعاملة؛ لأنَّ “الأصل في العقود هو الانعقاد والجواز، إذ لم توضع في الشرع إلا لذلك”؛((الأصل في العقود والشروط: الصِّحة، ما لم يدل دليلٌ على المنع.))
على أنَّ “لكل عقدٍ شرعيٍّ غاية اقتضتها حكمة الشارع؛ لوصول الناس إلى أغراضهم من معايشهم… فإذا قصد الناس من عقودهم المعاني التى رتبها الشارع من كلِّ عقدٍ، واستوفى العقد كلَّ الشروطِ المطلوبة لتحققه: كان العقد صحيحًا”؛
((الأصل في العقود والشروط: الصِّحة، ما لم يدل دليلٌ على المنع.))
بقلم الأستاذ/قسول جلول
باحث وإمام مسجد القدس حيدرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *