كلّما رأيتُكَ في المنام هرعتُ إلى واقعي أبحثُ عنك، أفتّش كالمَهابيل كأنّكَ تختبئ في كلِّ شيء.
يسقُطُ قلبي وتدعسُهُ الأرضُ حين أعودُ إلى رُشدي وأقتنع بأنني لستُ مُرسلةً بنبوَّةٍ حتى يوحى إليَّ بأنَّك إذا جئتَ في المنام تكون قد جئتَ حقا.
حين يقتلُني الحنين أهرولُ في الطُّرُقات أنتظر أن تلدكَ الأرضُ وتخرُجَ لي سِرّا من أسرارِها، أحزنُ لأنني لستُ في زمنِ المعجزات، لأنَّ أمنياتي ليسَت صالحةً لتوقيتِ رغبتي، لأني لستُ ساحرةً لأكذِبَ عليَّ كذبةً صادقة، ولستُ أملكُ القدْر الكافي من الشجاعة لأتمكّن من ربطِ زمامي فأكفَّ عن انتظارك وأنا أعرفُكَ لا تأتي حينَ تقتلُني الحاجةُ إليك.
أريدُ أن أغلق عينيّ وأفتحهما في يوليو الذي أخذك، فالبرد الذي جاءَ بكَ عادَ ولم تعد وأخشى أن يعود نيسان ولا يَكذِبَكَ عليّ مرّة ثانية!
حين اتصلتُ بك كنتَ قد داهمتَني بعُنف في غفلة مني، خطفتَ وجهي وطفقتَ تهزُّ قلبي وتوبِّخُه حتى لم أعرف ما أقول وما أفعل؟ وسطَ حشدٍ يُفسِحُ المكان للضّيق شققتُ طريقا نحوَ هاتفي طلبتُ رقمكَ وأنا أعرف أنك لن تَرُدّ. كنتُ أريدُ العودة إلى الحياة فقط وحين قطعتَ الخطَّ عادَ نبضي إلى مكانه، اطمأنَّ قلبي إلى قلبك ينبض في مكانٍ ما! وفشلتُ في ادّعائي بيني وبيني بأني تعودتُ على الحياة بعدَك!
كم بدوتُ بائسة لا طريقَ أفقهُ المشيَ فيه، وأنا أنظرُ إلى ابتسامتي تتساقطُ على حوافِها الدموع، وقد غزاها الخريفُ باكرا.. حاصرَتني ذكرى ابتسامتي قبلَ أن تغدرَ بي الفصول.. كنتَ الربيعَ لكل شيء حتى لورقتي وأنا أجاهِدُ أسئلةَ الحياةِ وأخسرُ الجهادَ أمامَها، وأنا أحاوِلُ نقلَ الماضي إلى يدي لتكتُب، إلى عقلي ليفكر، إلى قلمي لألَّا ينكسِر وأنا أشدُّ عليه متشبثةً بِه.. لا امتحانَ صمدتُ فيه دون أن أستعيدَ فرحتي بك وبدل أن أحاربَ الأسارير المنفرجة في وجهي غدوتُ أدفِنُ الدموعَ في المناديل قبل أن تسقُط، وأكتم شهقتي قبلَ أن تتدفق. فشلتُ في استرجاعِكَ ربيعا يا بن تشرين، وأنتَ نجحتَ في جعلي محطةً لقطار ذكرياتك لا ترحلُ ذكرى إلا لتأتيَ أخرى.
أخالُكَ تعرفُ كل شيء دون أن أخبرك، فأنا لم أعُد أتحدثُ إلّا إلى الله وإليك.. ولا أدري إن كنتَ “أنتَ” تسمع!
محادثتنا الأخيرة سحبَتني من يدِ العُزلة المُميتة، لكنَّ الأيادي حولي كثيرة وأخشى أن أُصابَ بالجنون قبلَ أن أراكَ أمامي وأعرفَك. تعبتُ من التفكير فيما تفعل بينما أحاولُ فعل كل شيء لأتحمَّل غيابَك، أنتَ الحاضِر الغائبُ وأنا فقط الساعةُ التي تُحصي مقدار ذلك. لقد صدق من قال أنّ “الحياة مع حب جحيمٌ يُطاق، والحياة دون حب جحيمٌ لا يُطاق”. لا يُمكنني الجزمُ بأني كنتُ قبلكَ أفضل فالأرضُ العاريةُ لا تُشبه الأرض التي تُغطيها سماءٌ بحجم عينيك، لكنّني أجزمُ أنني لم أكُن لأحتملَ ظروفي بما كان يعتمرني من فراغ. تلكَ بلاغة الله في تصريف أمور عباده، أرسلكَ إليَّ أمَلا كما أعانَ الرسُلَ بالمعجزات!
سامحني لأني أبحثُ عنكَ في كلِّ مكانٍ وأنتَ في قلبي، فما أنا إلّا بَشَر.. وأكتبُ إليك طالما أنكَ ذاكرتي..
لكن حين تنساني سأتوقفُ عن الكتابة إليك.

عاد تشرين، وعادت الذكرى تخبرني بأنّ سنةً مضت على الوعد فمحقَته. نسيتَني، ونسيتُكَ لكنّي لم أتوقّف عن الكتابة إليك! يا نبض حبري يا روح الكتابة، لا زلتَ الجمرة التي توقِد قريحتي، لا زلتُ حين أذكرك أكتب، وأنعي نفسي بالحروف ذاتها، هكذا صرنا معا جثّةً للنسيان سرمديّةَ الدفء، ماثلة الحواس، الحياةُ فيها لكنّها ميّتة!
وأحبّكَ في النّصِ كأنّك لم ترحل أبدا، وأنساكَ بعده كأنّك لم تكن! صارَ لي بَعْدٌ بَعْدَكَ كما كانَ لي قَبْلٌ قبلَك.
عادت بك ليلة خريفية، وطار قلبكَ إليّ كورقة الغاردينيا التي ابتعتَها لأجلي ووضعتها على مكتبك حتى تقتل استحالتي فيها.. كنتَ تصفني بشجرة السّرو عطرية الخشب دائمة الخضرة عالية وشامخة ولا تستطيع تسلقها، كنتَ تعدد لي فوائدها العلاجية وتريدني أن أفهم من كلامك أنّي صيدليتكَ التي يملكها غيرُك! كنتَ تقول كل شيء في قالَب آخر، جعلتَني كونا واختصرتني في الطبيعة، لكنّني لم أَبُحْ لك قطُّ بأنّكَ الماء الذي يجعل مني حية. في هذه الأيام تتردّد على أحلامي، على أوقاتي، على قلبٍ يعرفك كما تعرف سلاحفُ البحر أمَّها!
تذكرتُ ما بيننا كأنه وقع في رَحِم، رأيتكَ من خلف الماء المالح، لمستك من خلف الطلاء الجُبنيّ، شعرتُكَ بذاكرة بعيدة، بالرّائحة، وبكيتُ دون أن أحسّ بالألم.
لم نكتب شيئا بينما قلنا الكثير، التقينا على ضوء أخضر، سمعتك حتى انتهيتَ من لومي، ثم قلتُ لك أني لم أعد ملك أحد، صرتُ لي.. كأنكَ ابتسمت ثم تداركتَ نفسك.. دون أن تقول “لماذا” أنا فهمت. أعرفك جيدا وأعرف أنّ الخيبة اقتحمت فرحتك؛ كوني أملك نفسي أدار لك قفلا في بابي لكنّه لن يفتحه.
سألتك لماذا حذفتَ كل شيء؟ فأجبتني بعكس السؤال. قلت لك لأني أحب جمع الآثار. استشعرتُ صدمتَك. أجل هذي أنا حين أدخل الحبَّ دون قلبي، أحببتكَ من جديد لليلة واحدة أحببتكَ بالذاكرة، أحسستُكَ في رأسي في كل شيء إلا صدري، كنت أسمع خفقاتك وأنفاسَك من خلف شاشة زرقاء وقارتين وواحد وثلاثين ألف كيلومتر! كنت أراك مُلقيا بجسدك على كرسي مكتبك، في بيجامتك، تهز الكرسي يمينا وشمالا، رأيتك تدور به حينَ سألتني لماذا لم أعد أكتب لك وأجبتك: لأنّي نسيتُ أن أفعل. أجل نسيت الشيء الوحيد الذي كنتُ أفعله طوال وقت طويل، وكان يزعجك. حين غاب ضوؤك لدقائق عرفتُ أن أحدا اقتحم عليك خلوتك، رأيت انزعاجك، سمعتك تكذب وتقدم عذرا أهم بكثير من الذي يقدمه رجل يمسك هاتفه في منتصف الليل وهو جالس في مكتبه. ابتسمَ غروري، فقد تبادلنا الأدوار!
أنا أحتفظ برقمك لأننا نحذف فقط من نخشى مرورنا بهم صدفة، وأنت تحتفظ برقمي لأنّك تريد أن تجدني في كل مكان تذهب إليه، ومع النت والهواتف الذكية أصبح للنهايات الغبية بدايات أخرى، أصبح للوداع أماكن للقاء، أصبحت الصدفة شيئا عاديا لا يسبب الطّعن بل الضحك أو أقل.
قرأت الكثير في تلك النقاط المتتابعة التي تدفع آخرُها أولاها، ثم تتعثر فجأة ثم تختفي ثم تعود، تنذر بأنّنا لم نعد غريبين بعد، ولن “أصبح غريبة أبدا”، قرأت كل ما يقول أنني لستُ للنّسيان وأنّك تخاف جدا أن أكتب حرفا واحدا.
طالني شوقك، وغرقت في الليل الذي ينزل عليك قبلي، ضعت مع الذاكرة في زمنين أحدهما الحنين والآخر النسيان، أحببتك فقط لليلة واحدة دون قلبي. وعادت اللغة بيننا سيدة الصمت، بلسانها تحدثنا عن الحياة التي صارت في لحظة خلفنا وفي لحظة عادت أمامنا.
معك لا أحتاج إلى القصيدة، بل إلى نثر لا ينتهي.
ساعة واحدة بين تاريخين كانت كفيلة لأن تجعلك عاشقا من جديد، دخلتُ مرة أخرى بيتك، تجولت في جيبك وكحِرزٍ انتهيتُ تحت وسادتِك.
هذه الأيام القصص كلها تهاجر أجنحتُها نحوك، تضمّ رياحَك وتلتقط أوراقَك، تحمل قصائدي على ظهرها حقيبة. تخطط لتخبرك كيف بعد رحيلك نسيتُك. وأنا أتردد مثل السماء أريد أن أُمطر قبل أن تصلكَ الحقيقة.. فأُفضَح!

التفتُّ خلفي إلى أمد الفظائع التي عشتُها بِك دونك، كم بدا الزّمنُ -الذي لم يكن في أوانه يخطو خطوة واحدة- يركبُ بساط الريح.. منذ سنتين\لحظتين، كنتُ أسير على قلبي والأرضُ بما عليها تنحتُهُ بالأماكن التي جعلَتْ مِن ألمي أليفا، ومن غيابك عادة. قلبي مطبوع بالشّوارع التي مشاها طيفُكَ قبلي ووهما مشيتُ أقتفيه. ثم الآن بعد تاريخ من الأشياء التي حدثت كأنها لم تحدث أتذكر أنّ السماء هذه تشبهك، تشبه كلامك، تشبه الرجل الذي لا زلتُ لا أدري لماذا أتى؟!
هل نيسان قادني إليك، غيوم الربيع التي لا تمطر، حنين فقد صفاتِه، أم حبٌّ ما عاد يُسمّى حُبا؟
وقتها لمّا كتبتُ لك، لم أُحْصِ ما سقَطَ منّي بل ما تبقّى بي، والآن أحاول أن أصدّق حدوثَكَ في حياتي، وحتى ذاك الحطام الذي تركتَه لم أعُد أذكر أنَّك فاعِلُه.. ألهذا سامحتُك؟
بين رسائلي تلك ورسالتي هذه نسيانٌ فقد صوابه وذاكرةٌ فتحت بابها لجنونٍ عاقل. مكانَ كل ذلك الغضب والأسئلة والتخبّط حلّ السّلام، سَلامٌ سكنني يوما عن يوم؛ فقد تصالحتُ مع القدر، مع المسافة، مع طينكَ، مع طبيعتك، أيعني هذا أني توقفت عن حبك؟
لكن هل كان الوقتُ كافيا؟ وقتها أخطأت في تقدير نفسي، والآن أخطئ في تقدير قلبي! هل تكفي سنتان لانتهاء فاصلِ الرّحلة؟ أكره أسئلتي الغريبة… وأحب أسئلتك التي تشي بمكاني داخلك. وتظنُّ أنّي لا أراه من وراء حجاب.
هل سمعت؟ أنا لا زلت أحبّ شيئا فيك، وأشعر أنّ ثمة الكثير من الأسئلة عنك في قلبي، وليس صحيحا أنّنا أجبنا على كلّ الاستفهامات. أنت تعرف قناعتي بأنّ الحبّ ينتهي حين تنتهي الأسئلة، لكن على هذه السّماء قرأت وجهكَ كأنّي لا أعرفه، فما رأيكَ أن نتعرّف من جديد؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *