عندما كنت طالبا أحضر شهادة الماستر في علم الاجتماع السياسي جامعة سيدي بلعباس، وقد درست على يد نخبة من الاساتذة أكن لهم الكثير من الاحترام، فجامعة بلعباس هي التي تعلمت فيها اصول علم الاجتماع، وتعلت اهم شيء هو ان أقول رأيي، وأن الطالب الجيد هو الطالب الذي نادرا ما يتفق مع أساتذته، وهو الطالب أيضا الذي يتعلم النقد والتمرد قبل أي شيء، وانا أتذرك جيدا ما كنت أحضره من دروس في الفلسفة السياسية التي تعتبر من المواد التي يجب ان يتلقها أي باحث في مجال العلوم الاجتماعية، وأتذكر جيدا المحاضرات التي تلقينها على يد الاستاذة المحترمة مروفل، ومن بينها فكرة الصراع عند هيجل، والعقلنة وعلم الاخلاق، لقد تلقينا ما يكفي لنعرف أن هيجل كان من بين عمالقة التنوير والعقلنة والعلمنة إن صح التعبير، لكنني أتذكر مقولة سمعتها من استاذتي آن ذاك وهي تتعلق بأخر اعمال هيجل، الذي أجاب على سؤال متى ينتهي التاريخ؟ فقال عندما تتجسد دولة الله على الارض، وهنا قلت في نفسي أليس هذا كفرا من هيجل بكل ما انتجه وبكل ما دافع عنه من عقلة وعلمنة، وسعي إلى التخلص من كل ما هو متسامي ومتعالي أو ذو مصدر ديني؟.

واليوم وفي غمرة ما بعد الحداثة نجد أن الكثير من العلمانيين الغربيين يطالبون بتوبة الحداثة، وبضرورة التصالح مع الدين، وفي هذا الأيام وانا بصدد تصويب بعض المباحث في اطروحتي، أطلعت على بعض كتابات الباحث الفلسطيني عزمي بشارة، حول العلمانية، وهو كتاب من ثلاثة أجزاء، تحدث فيها بإسهاب عن نشأة العلمنة وعلاقتها باللاهوت، وعلاقتها بالدين والمسيحية، وأدرج عدة نقلات عن باحثين ومفكرين غربين، أثبتوا ان العلمنة ما هي الا صورة من صور المسيحية في الغرب، وإن كانت تبدوا معادية للدين، لكنها في حقيقتها نابعة من الدين نفسه، في قراءة تنتهي بك مهما طال المطاف إلى عقلية وذهنية السيد المسيحي الابيض، الذي يريد ان يكرس لهيمنته ولشرعية تلك الهيمنة على باقي الشعوب والديانات، أي ان العقلنة والعلمنة الغربية ورغم كل ما تدعيه فهي مجرد صليبية جديدة، فقط انها انتقلت من القتل والعنصرية والاستحقار للشعوب والامم على أساس ديني، إلى القتل والعنصرية والاستحقار للشعوب والأمم على أساس علومي وعقلي، لكنه بنفس المنطق الظلامي والمتعجرف، والذي لديه نظرة واحدة للعالم، هي الغرب متوفقا عرقيا ودينيا وعقليا والعالم متخلفا عرقيا ودينيا وعقليا، وكل الشواهد تثبت هذا.

وما نعيشه اليوم من احداث قتل وتقتيل من طرف الكيان الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني دون تمييز بين أطفال ونساء والشيوخ وعزل، هو خير دليل على أن الغرب مرجم وأن الغرب فقط يقتلنا اليوم كمسلمين باسم حقوق الانسان، وقديما كان يقتلنا باسم الرب، لكن يبدوا أن فكرة القتل على اساس الدين والهوية لا تزال هي التي تحكم المشهد، فالغرب اليوم يتفرج بل يدعم كل ما يحدث في فلسطين، ولا يهمه عدد القتلى ولا الطريقة التي قتلوا بها، فقط هو يكرر في كل يوم حق الصهاينة في الدفاع عن أنفسهم، لا يهمه الطريقة والكيفية ولا ضد من، المهم أن يقتل المسلمون، وأن يجبر المسلمون على ترك أرضهم لليهود، من أجل ان يقيموا فيها دولة دينة تدعي ان الارض سيرثها اليهود بصفتهم شعب الله المختار، وكل قادة الغرب لا يرون في هذا المنطق أي تطرف، بل يعتبرونه حقا مشروعا لليهود بينما يرون دفاع الفلسطينيين عن انفسهم وعن مقدساتهم إرهابا لا بد أن يحارب بمختلف الأشكال والوسائل، وان مخالفة جميع الاعراف الدينة والقانونية والوضعية في قتل المسلمين لا يعني شيء، فعن أي انوار وعن أي إنسانية نتحدث؟

الغرب لم يتب من مسيحيته ومن صليبيته، وهو لا يزال يرى في المسلمين عوده الأول، وهو رغم كل ما يدعيه من علمنة ودفاع عن الحرية وعن حقوق الانسان وغيرها من المصطلحات التي اقتنعنا نحن بها للأسف واصبحنا نناضل من أجلها، بينما الغرب يناضل من أجل عقيدته ونشرها والتوسع من خلالها، وهي عقيدة صليبية مسيحة متطرفة، لا تختلف عن ما اقترفه الصليبيون في بيت المقدس، وما اقترفته محاكم التفتيش في اسبانيا وما اقترفه الاحتلال الأوروبي المعاصر في مختلف المستعمرات في القرن التاسع عشر والى غاية منتصف القرن العشرين، القتل على أسس دينية واحتقار كل ما هو ليس بغربي وليس بمسيحي وليس بيهودي، وأحداث غزة خير دليل على ما أكتب وأقول، فنحن المسلمون وحدنا الذين أمنا بالعلمنة ونحن وحدنا ننتظر أن نسترد حقوقنا عن طريق هيئة الامم وغيرها من المنظمات، بينما الغرب متفرغ للتحضير لنهاية التاريخ، حيث سيتواجه المؤمنين من كل دين، لتكون الغلبة لأتباع دين واحد، يجسد كلمة الله ودولة الله، بينما يتم القضاء على كل المهرطقين والمجدفين والكافرين، منطق اعرف ان الكثير من العلمانيين من بني جلدتي سيلومونني عليه، بينما يرونه بأم عينيهم يحدث في فلسطين، لكن العلمانيون المسلمون مستعدون لتكذيب الله، بينما لن يكذبوا نواميس الحداثة والعلمنة التي أصبحت تخترق أمام أعينهم ليلا ونهارا.

بقلم كرايس الجيلالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *