ولأنّ المصائب تُنادي بعضها، تذكّرتُ الأربعاء الحزين الذي أخذك.. عجبا كيف يختار الموت أيّامه الكبيرة كما يختار ضيوفه!
تفقّدتُ حسابكَ فحتما لا يموتُ لبشير حمّادي 257 ولدا ولا يفجّر اللّغة، لكنّ الطّائرة تشظّت في قلبك منذ عام ونيفٍ فسكتَّ إلى الأبد.
ألستَ تحلم بجزائر دون رصاص؟ هذه المرّة أنا أحلم بدلا عنك بجزائر دون طائرات عسكريّة، لكنّنا جميعا نعلم أنّ حلمنا بجزائر دون خونة لن يتحقّق أبدا، وهذه من بين أحلامنا التي ستبقى إلى الأبد أحلاما.
حين سمعتُ الخبر كنتُ على أهبة الخروج لأستخرج بعض الأوراق، كنت ملبّدة وحزينة وبطني توجعني دون سبب واضح. قلتُ لسارة خليفة: “سارة بي وجع القصيدة لكن عليّ أن أخرج الآن”، مشيتُ في شوارع تيغنّيف تلتطمّ أمواج الذّكريات بقلبي مع هبّات الرّياح العنيفة.. الأربعاء المخيف
تذكّرتُ “ب. ز” جارنا الذّي كان لا يزال في العشرين لم يتجاوزها بسنة واحدة على الأقلّ،.. يا إلهي.. صوتُ أمّي وهي تَلِدُ لي الخبر “ب. ز” مات أو بالأحرى تمزّق.. كنتُ تحت ليل قسنطينة ذاك أجوب ساحة الحيّ الجامعيّ شريدة وقد طردتني البنات اللواتي معي في الغرفة وأنا على أبواب الامتحانات. كنت أبكي لأنّي غريبة ومظلومة في وطني من إخوتي في التّراب. كنت أبكي لأنّي لم أجد أين أنام لكنّ بعد تلك المكالمة لم أعرف كيف أسكت، على ذلك المقعد المبلّل قبضتُ جذع النّخلة حتّى أحسستُها الإصبع السّادس في يدي واستغرقتُ في عيونه العسليّة وسمرته أحصي عدد النّظرات التي لم أنتبه لها، تذكّرتُ كلّ المصادفات التي جمعت بيننا (كيف لم أفهم نظراته التي تشي بحبّ أخرس، حبّ هادئ، حبّ يتنفّس برئة واحدة) ربّما حالفتني أنوثتي فاتّقيتُ حبّا كان يمكن أن أسكن بعد انفجار جثّته “مستشفى المجانين”، كان يقول لهم: “حين أكبر سأتزوّج نُسيبة” لهذا ترك دراسته وانتسب للجيش حتّى يكبر بسرعة. مات بسرعة وربّما أنا آخر من مرّ بذاكرته وهي تودّع الوهم المسمّى “حياة”.. عانقتُ نباح الكلاب واستعرتُ حناجر النّوارس لألهِمَ السّماء فتُمطر، وأمطرت صَأْيًا كالذي كنتُ أُطلِقُهُ حتّى أتى الصّباح واكتشفتُ أنّنا في الحُزنِ اللّيلُ أفخم حانة نرتادها لنذهب في أوطاننا. غرستُ قدمي جيّدا في شوارع القيطنة اللّزجة بلُعابِ الجنائز التي دخلتُها أصرخ والتي دخلتُها على الأذرُع، وأجّلتُني..
طرقتُ أوّل باب استنجدتُ به النّسيان ومثّلتُ أنّي بخير لبعض الوقت..
على درج بنايتنا كاد لي جسدُ ابن جارتنا التي جرّوها إلى المستشفى في تلك اللّيلة من رمضان ونصب لي شَرَك قبرٍ آخر. كانت تجهّز لعرسها في الأسبوع الأوّل بعد العيد وتفوح من بيتها رائحة الفرح وحلوى الزّفاف وعطور شهر العسل، لمّا اختفى فجأة كلّ ذلك وجرى الدّمُ في حيّنا حتّى أغرقني. بقيت تصرخ لساعتين بشكل هستيريّ مريع دون أن يتعب حبل واحد من حبالها الصّوتية، صرخت وصرخت واقتلعت البلاط لدرجة أنّ أظافرها صنعت رواقا بين كلّ خطوة وأخرى، لقد أكل جسدها الأرض، كانت تتمسّح بالأشياء كأنّها تجمع ما سقط من آثاره وما تبقّى منه بعد زيارته الأخيرة لها. قتل الإرهابيّون حبيبها مع العشرين جنديّا وهم يتناولون طعام الإفطار. والبارحة تخيّلتُ كلّ الحبيبات اللواتي لن يكون بوسعهنّ تمريغ أجسادهنّ والصّراخ دقيقة واحدة فقط، تخيّلتُهنّ وهنّ يعددن العشاء حتّى لا يشعرن أحدا بأرواحهنّ الأرامل لرجال لم يصبحوا رجالهنّ إلّا في مكالمات ما بعد ساعة الصّفر وبعض اللّقاءات السّريعة أمام النّوافذ والحمّامات الشّعبية والأسواق، والأحلام…
اللّواتي بكين في الحمّام أو المطبخ ومزّقن الوسائد بأظافرهنّ وصرعتهنّ الحمّى لكن أصبحن يزاولن أعمالهنّ بالشّكل الذي يرضي عالما لا يمنح لامرأة حقّها في الحزن كما يليق بالحبّ الحرام، الحبّ العيب، الحبّ العار.
وأنا أمٌّ ولي ولدٌ لذا تخيّلتُ حال الأمّهاتِ اللّواتي نبتت غابة شوك في أرحامهنّ وسيبقين العمر كلّه يفتحن حقيبة الرّضاعة، يمهّدن السّراب ويدفّئن الحليب للأشباح ويهدهدن بأهازيجهنّ الحزينة وحشَ الظّلام، أشعر بهنّ وهنّ ينزلن إلى الأرض ليلتقطن الألعاب، فيفجعهنّ البلاط، ويسمعن بكاءً صغيرا فيخرجن أثداءهنّ ليصفعهنّ البرد، أراهنّ وهنّ يشاهدن القماط كبُرَ وصار كفنا لن يصدر منه أيّ صوت، إنّهنّ اللّواتي سيعانين كلّ لحظة آلام المخاض وليست الشّفقة من صفات الموت.
يُهَيّأُ لي أنّي خُلِقتُ لأَرثي يا بابا بشير، أنا التي تعرف جيّدا ما معنى الرّثاء منذ أن صار قلبي جنازة هكذا وتكدّس بالموتى والرّاحلين. لا يمكنني أن أمرّ على الموت كما يمرّ العابرون ومحبّو الحياة والرّاضون جدّا بالقضاء والقدر، فهناك موتُ ليس من قضاء الله بل من أفعال البشر وأبناء وطني قُتِلوا كما يموت أمثالهم كلّ يوم فُرادى وأشتاتا، فمتى توقّفت الجزائر عن العويل؟! نحن فقط هذه المرّة اتّفقنا على دمعة واحدة ووقفنا في عزاء واحد نمدّ أيادينا لبعضنا، لقد عرفنا أخيرا أنّه ليس لنا غيرنا. نحن الشّعب المنكوب، سيّئ الحظّ. قال ذات يوم النّاقد بشير بويجرة جملة قهرتني جدّا: “الجزاير من بكري ما عندهاش الزّهر وحنا ولادها” وحظّ الأولاد يا بابا بشير من حظّ أمّهاتهم.
لقد تخيّلتُ الكلام الأخير لكلّ شهيد مع نفسه. تلك القصيدة التي لن يستطيع أحد كتابتها، ذاك العُريُ على حافّة النّهاية، قاب كلّ شيء ولا شيء، هناك من قال: آآآ مّا، هناك من قال: آآآآ بويا، هناك من قال: آآآآ ربّي، وهناك من قال: حبيبتي سّمحيلي، نبغيك. وكلٌّ تجلّى في أكبر الآمال، في النّاس الأغلى.
نحن موجوعون هكذا لأنّه ليس للّه يدٌ في خرابنا بل البشر الذين يقتاتون على خرابنا، الذين يموتُ أحبابنا ليأمن أحبابهم في أسرابهم، الذين الدّنيا لهم والأجنحة التي لا تتمزّق والطّائرات التي لا تلعب بها الرّياح، الذين يلعبون بنا ويبثّون أنباء وفاتنا وعويل أمّهاتنا ودموع آبائنا مع أخبار مهرجان الفيلة في نيوزيلاندا ومع المسلسلات التّركية، أنباء وفاتنا التي ينقلها صحافيّون يقولون لشعب مذبوح يومكم سعيد ويسألون أبا يحتضر حُطاما: “ما هو شعورك؟”
ففي وطني كلّ الأمور في زمام العاقّين
في وطني تُذبَحُ القصيدةُ كنعجةٍ دون هوية
في وطني تكثرُ المُسميات والموتُ وحيد
في وطني ليس المُسمى كاسمهِ
في وطني يرهنُ الملعمُ لحمَهُ
والأنيابُ لا تشبع
دائما تطمَعْ .. تبغي المزيدْ
في وطني يموت الراغبُ كاليهود
لا رحمةَ عليه
لا الفاتحةُ
ولا الحديدْ
في وطني الراغبون يهودْ
في وطني القرود أسودْ
والأسودُ قرودْ
في وطني شعبٌ غريبْ
له ربانِّ
ربٌ في السّماءِ.. وربٌ في الجُيوبْ!

في وطني البُنُ والتبغُ أغلى من التاريخ
في وطني يُلَف اللقيطُ بالنشيدْ
والتبغُ بصورة الشهيدْ
فنسي شعبي شكل الأمير
ونسي شعبي شكل العقيدْ

أيها الوطنُ..مهلاً علي
فإنّي صغيرْ
أحبُ الخُبزَ
أحب الحلوى
والحليب
واللعب بالتراب
والتنزُهَ في العيدْ
مهلا وطني فأنا ما زلتُ أبكي
حين أجوعُ وحين يقرصني الجليد
أبكي.. أصرُخُ كالوليدْ

..أيا وطني قد بِتُ أخشاني
من فرط ما أقسمتُ
..أن لا أحيدْ
يا وطني مهلا
أنا لن أحيدْ
لكن كفاكَ تقْتُلُنا كالعبيدْ

وطني نحن لا زلنا صغارا
من ربوعكَ انبثقنا
نملأُ أوصالَكَ بالنشيدْ
لا تحسب أنّا كبُرنا
وحلبنا أشطُرَ الدّهرِ العتيدْ
على رأسي أنتَ يا وطني
واللهُ أكبرُ لن تبيدْ
لكنّني مهزومةٌ..
والقلبُ أجهَدَهُ الوعيدْ

وطني
قل لي إلى متى أحلامُنا
نُرجئُها لليومِ السعيدْ؟
متى ذاكَ الوعدُ؟ أصدقنا الوعدَ
إنّا نرى أكفاننا ..تُرفرفُ في القريبْ
و المُنى بعيدْ.. كم هو بعيدْ؟

في وطني كُلُنا نريدْ
والموتُ يأتي يأخُذُ ما نُريدْ
ألا ليتَ دمعي ينهمرْ
ويح قلبي لا أستطيعُ حتى البكاءْ
في وطني تُذبَحُ الحقوق كنعجة دون هوية
في وطني.. اللّكمةُ حُرية
في وطني.. الصّفعةُ حُرية
في وطني الرفسةُ حُرية
في وطني اقطع ساقا أو يداً فأنتَ حُرْ
في وطني اكسر ضِلعاً أو أنفاً فأنتَ حُرْ
في وطني.. العينُ أُضحيةٌ
والسِنُ أُضحيةٌ
والباديءُ أعظَمْ
في وطني إن كنتَ ذا حقٍ ابلَع لسانك
أو تموت
في وطني كُن سفيها.. وانتصب فأنتَ حُرْ
أنتَ حُرْ

في وطني تلدُ النّساءُ على الرصيفِ ولا خَبَرْ
في وطني وأْدُ العذارى انتشَرْ
في وطني الوصية إلزامٌ قبلَ السفرْ
ولثمُ الأصدقاء.. والأشياء العزيزة
بالتّقبيل والنَظَرْ
هذا الحال في وطني.. ولا مفَرْ..
في وطني قبل أن يبلغَ المُرهقُ
الثامنة عشرْ
يبيعُ قلبَهُ للمصير وللخطرْ
..هذا وطني..
مُذْ على الأرض انفجرْ
يُصدِّرُ القلوب ويستوردُ الحجَرْ
هذا وطني مُذْ على الأرض انفجرْ
قانونَ الجريمة اختَصَرْ
يمتصُ الدّماءَ
ولها على المدى يتضوَرْ
وسيبقى يتخيّرْ
فالبس الجديدَ وتعطًرْ
وخُذْ معَكَ ما استطعتَ من الحياة لكي لا تبكي في ساعة الموتِ على أيّ شيء. ولو أنّنا بكلّ هذا الموتِ لم يعد ثمّة متّسع للحياة أو القليل منها حتّى، الموتُ يجلس بين أحلامنا وبين عشّاقنا، وبين كلّ اثنين اجتمعا ليضحكا على نكتة ما.
كأنّ شيئا قُتِل فينا هذا النّيسان الذي صدق هذه المّرة كذبةً شنيعة، كأنّنا لن نعود الجزائريّين الذين كنّا، كأنّنا انسكنّا بغصّة أبديّة ستجعل من الوجوه الصّفراء والهاءات المتّصلة في رسائلنا ومنشوراتنا حراما، من عاد منّا قادرا على الضّحك أو المزاح حتّى؟! هذه المرّة كأنّنا انتبهنا إلى أنّنا لا نساوي شيئا في أعين من يحكمون هذي البلاد، كأنّنا انتبهنا إلى الموت الذي يقطع طريق ملاك اليمين حتى لا يصافح ملاك الشّمال، انتبهنا إلى أنّنا كتلة واحدة في اليأس وفي الجرح وفي الخوف وفي التوجّس من الآتي الذي بات واضحا أنّنا نمضي إليه دون حماية. وسألنا جميعا سؤال: “ماذا بعد؟” ماذا بعد طائرات تسقط كلّ عام، وأرواح تسقط كلّ يوم، وأحلام تموت كلّ لحظة؛ ماذا بعد عهدة رابعة لم نشهد فيها إلّا على المزيد من الخيبات والاقتراب من شهقة الوداع.
كنّا قبل هذا نلتهي بالرّيال والبارصا وأسعار الأورو وكتّاب الرّداءة وفضائح العالم وتمضي الأيّام… لكن بعد الأربعاء سيشغلنا المستقبل كثيرا فماذا سيخترعون لنا لنغدو أقلّ بؤسا.. قولوا لهم أن يخترعوا لنا كذبة أخرى تقول بأنّ من ماتوا كانوا مصابين فقط بغيبوبة مؤقّتة وعادوا إلى الحياة فعودوا أيّها البؤساء إلى خميسكم العاطفيّ تتساءلون إن كان ثمّة حبٌّ في الجِوار لتحمّل الملل؟!
أنا حزينة جدّا بابا بشير بشكل لذيذ وكأنّني استحليتُ المعاول التي تُفرِغُ مكانا بصدري لقصيدة أخرى، طعمُ الضّرب الذي يشربه الشّيعة كالنّبيذ وهم يذوبون في الألم. الآن أفهمهم.. أفهمهم بشدّة. فنحن لا نرى بعين اليقين غيرنا إلّا حين يبلغ هدي المُصاب محلّه فينا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *