حاورها الدكتور: عبد الرحمان تبرماسين
الجزء الأول

في أطار استضافتي من الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية فرع الدار البيضاء بالمملكة المغربية وعلى هامش الملتقى الوطني الثامن للقصة القصيرة دورة الأديبة الزهرة رميج . حضر الكرم المغربي بكل معانيه الشاملة والواسعة الذي لا يضاهيه الكرم الحاتمي إذ قوبلت بحفاوة كبيرة من الإخوة والأخوات المغاربة جمعت بيننا قضايا الأدب والثقافة وهموم الوطن الكبير . وبعد الانتهاء ، استضافتني الأديبة المقاومة والمناضلة ” الزهرة رميج ” في بيتها حيث تعرفت على أبنائها ” أكرم وشفيق ” وطال اللقاء بيننا وتكرر وتناولنا أطراف الحديث وكان جل الحديث حول الأدب والجمال والفكر الثوري وأيام النضال في القرن الماضي وما فيه من متابعات وسجن وتعذيب نفسي وإكراه بدني. وكانت نقاط التقاطع والتماس بيننا عديدة نتج عنها الحوار الآتي : الزهرة رميج أديبة مغربية كاتبة ومترجمة تهتم بقضايا الإنسان عموما وقضايا وطنها خصوصا. تعرضت للسجن وللمتابعة زمنا من الدهر . بدأت نضالها مع الحركة الطلابية في فاس واستمرت في مقاومتها ونضالها الأيديولوجي وهي إلى الآن مقاومة ومناضلة تأبى النسيان. أصدرت العديد من المؤلفات ففي الرواية لها : ( أخاديد الأسوار)، (الناجون)، (عزوزة)، (الغول) . وفي مجاميع القصص أصدرت: (أنين الماء)، ( نجمة الصباح)، (أريج الليل). وفي القصة القصيرة جدا : لها (عندما يومض البرق). في النقد الأدبي: (الكتابة النسائية)، (التخييل والتلقي)، وترجمة العديد من الأعمال الإبداعية لكتاب مغاربة وأجانب. الزهرة رميج متقاعدة الآن وتقيم بالدار البيضاء وتتابع باهتمام كبير قضايا العالم والعالم العربي خصوصا وهي كما تأبى النسيان ترفض الصمت .

1ـ وأنا أقرأ (أخاديد الأسوار) ، ومن بعدها ( الناجون ) استوقفتني هذه المفارقة أن الساردة حين استقدمت عامل الترصيص ليصلح لها المسخن أدرك أنها لوحدها في البيت ، ولم يشأ الدخول لمباشرة العمل لإيمانه أنه ما اجتمع اثنان إلا والشيطان ثالثهما. وعندما أطلق سراح رفيقها من السجن ، عمل بوصية رفقائه على أن لا يعود إلى بيته مباشرة خوفا عليه من اغتياله أو اعتقاله ثانية ، فكان مقصده بيت رفيقته ( الساردة ) التي قاسمته الغرفة ، ولم يجمع بينهما سوى هم الوطن الذي كان ثالثهما رواية ( أخاديد الأسوار )! وفي رواية (الناجون ) تقول الساردة : (( المناضل الحقيقي هو الذي يتغلب على الجانب الحيواني فيه )) ! ما تعليقك ؟

من المعلوم أن النفس البشرية ميالة بالفطرة ، إلى تلبية رغباتها وشهواتها، ومن هذه الشهوات لذة الجسد. ونحن نعلم أن الجنس هو الطعم الذي يصطاد به الكثير من المناضلين إن لم يتحكموا في رغباتهم الغريزية . لذلك ، لا يمكن للمناضل الصمود والاستمرار في المقاومة إن لم يتسام عن كل الرغبات والشهوات ، وأن يتحرر من عبوديتها المدمرة أحيانا. في رواية ( أخاديد الأسوار ) حضرتني هذه الجملة التي قالتها إحدى شخصيات رواية ( الإضراب ) للكاتبة الإسبانية إيزابيل ألفاريس دي طوليدو لصديقها المناضل عندما عجز عن توقيف التدخين : (( من لا يستطيع تغيير نفسه، لن يستطيع تغيير العالم )) .

وفي رواية ( الناجون ) استحضرت تعاليم لينين للشباب، إذ يدعوه إلى تعويض الرغبات بالقراءة وممارسة الأنشطة الفنية التي تمكنه من تفجير طاقاته الإبداعية، وتجنبه التفكير في رغبات الجسد وشهواته. فالمناضل الحقيقي الذي يؤمن إيمانا قويا بعدالة قضيته ، لا بد أن يتصف بالقدرة على مقاومة كل الإغراءات التي تعترض طريقه ، أو التي تنصب فخاخا للإيقاع به، أو الدفع به إلى خيانة قضيته . إن التحكم في الرغبات وكبتها هو أول ضريبة يقدمها المناضل في سبيل قضيته .

2 ـ هل لا زلت في بلد مهزوم لا توجد به غير الأرامل والثكالى ؟ هذا ما كتبته سامية في إحدى رسائلها إلى حبيبها المناضل بطل رواية ( الناجون ) الذي هرب إلى فرنسا خوفا من الاعتقال. والرواية كما تعلم، تتناول مرحلة السبعينيات من القرن الماضي التي يطلق عليها اليوم سنوات الجمر والرصاص. لقد عرفت هذه المرحلة مآسي كثيرة لكونها موشومة بالقمع والتعذيب وانعدام حرية التعبير فقد كانت مرحلة ساخنة عمتها المظاهرات الطلابية ، والانتفاضات الشعبية، ومحاولات انقلابات عسكرية ، كما عرفت تنامي المد الشيوعي وتعدد الحركات اليسارية باختلاف أشكالها على غرار بقية العالم الثالث عموما والعالم العربي خصوصا. لذلك كثرت فيه الأرامل والثكالي . لكننا اليوم ، ومع الانفتاح الديمقراطي، والتوقيع على الاتفاقيات الدولية ، أصبحت أساليب القمع التقليدية مثل القتل الجماعي والتعذيب حتى الموت والاختطاف ، أساليب متجاوزة ، بل ومرفوضة . وأصبح هناك هامش من الحرية يتيح للفاعلين السياسيين وللمجتمع المدني التنديد بكل التجاوزات التي قد تحدث في مجال حقوق الإنسان.

3 ـ السراح المؤقت يعني العذاب النفسي ، أليس كذلك ؟

بلغة أخرى ، استمرار التعذيب في الفضاء الرحب بدل من الزنزانة المغلقة، فأنت حرة وأسيرة، هذا هو السراح المؤقت. إنه مفارقة وثنائية ضدية. ماذا تقولين عن هذا؟ السراح المؤقت كما عشته شخصيا ، تجربة مرة . إنه تعذيب نفسي مستمر. فأنت حر بحكم الواقع الذي تتحرك فيه ، لكنك سجين عيون تتربص بك أينما حللت وارتحلت . فالمحكوم بالسجن ، يقضي المدة التي يحكم عليه بها ، وينتهي الأمر. لكن المحكوم بالسراح المؤقت يظل يتوقع إلقاء القبض عليه والزج به في السجن، خاصة إذا ظل متشبثا بمواقفه ومستمرا في نضاله وبطرق سرية . أستحضر هنا حادثة لم أحكها لأحد من قبل . بعد سبع سنوات من الحكم علي بالسراح المؤقت ، كنت ما أزال أتوخى الحذر ، وأراقب كل الأشخاص الغرباء الذين يظهرون في محيطي فجأة . ذات مرة ، لاحظت وجود سيارة سوداء غريبة عن الحي ، تتوقف كل ليلة أمام العمارة التي أقطنها، يركبها شخصان أو ثلاثة ، لا أراهم رؤية العين، إذ أراقبهم من الشرفة ، وإنما تنم عن وجودهم سجائرهم المشتعلة التي تلمع في الظلام. تبقى السيارة في مكانها حتى طيلة الليل، وتغادر مع اقتراب الفجر… استمر هذا الوضع لقرابة الشهر ، جعلني أوقن أن أصحاب السيارة من جهاز المخابرات ، وأنهم يراقبون الداخل والخارج من العمارة ، خاصة وأن المناضلين في تلك المرحلة كانوا يستغلون الليل ليتحركوا بحرية أكبر . ولك أن تتصور العذاب النفسي الذي عانيت منه طيلة تلك الفترة . اختفت السيارة فجأة ، ولم تظهر بعد ذلك قط . فكرت أنهم غادروا بعدما تيقنوا من عدم ممارستي لأي نشاط محظور . ومرت سنوات طوال ، فإذا بي أكتشف بالصدفة ، أن أحد سكان الحي كان مولعا بشرب الخمر، ولسبب لا أعرفه لم يكن يذهب إلى الحانة لملاقاة أصدقائه ، وإنما هم من كانوا يأتون إليه ويسهرون معه في السيارة إلى وقت متأخر ! تخيل أي ألم شعرت به وأنا أكتشف مجانية ذلك العذاب النفسي . إنه زمن الرعب الذي يجعل المرء يشك في كل شيء من حوله.

4 ـ ما العلاقة بين المجتمع والعمل الأدبي ، رواية ( الناجون ) مثلا ؟

الأدب عموما ، هو انعكاس للمجتمع الذي يفرزه . فالواقع الاجتماعي هو المادة التي يمنح منه المبدع إبداعاته. لذلك ، فهو حاضر ليس في رواية (الناجون) وحسب، وإنما في كل رواياتي وقصصي . ذلك أن الكتابة عندي مرتبطة بالواقع المغربي خصوصا والواقع العربي عموما. كتابتي لا تدخل في نطاق التجريب الفني الخالص لذاته ، أو الاشتغال الكلي على اللغة الذي يدخل النصوص في متاهات الغموض والتعقيد ، ولا تهرب من المعقول إلى اللامعقول … وإنما هي حمالة قضايا اجتماعية تؤرقني وتجعلني أتناولها من باب مسؤولية الأديب تجاه مجتمعه ، ودوره في تغيير واقعه إلى الأفضل. ذلك أني ما زلت أومن بدور الأدب في التغيير وبأهمية التزام الأديب بقضايا مجتمعه، وسعيه إلى نشر القيم النبيلة وخاصة منها تلك التي تكاد تنقرض في مجتمعنا العربي بعدما غزته العولمة ، ونَمَّطَتْ سلوكياته ، وعَمَّق وعَمَّقَتْ فيه الأنانية وحب الذات والانجراف نحو المظاهر الزائفة ، وبعدما عَمَّ الفكر الظلامي المتطرف ، فحلت الكراهية محل المحبة ، والتعصب محل التسامح ، ولم يعد الشباب مقبلا على الحياة، بل على الموت، طمعا في الجنة وفي حور العين ، ليعوض هناك الحرمان الذي يعيشه في هذا العالم الذي يتفاقم فيه الفقر ، وتزداد الهوة عمقا بين الأغنياء والفقراء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *