لم يكن الفنان الجزائري كمال مسعودي الذي غنى موسيقى “الشعبي” الرائجة في البلاد مجرد موسيقار رافق جمهور بلاده في أحلك المراحل التي مرت بها خلال التسعينيات، بل كاتب آلام شعب مثخن بالجراح.
فاطمة حمدي
وتعيش الجزائر اليوم الذكرى الـ22 لرحيل الفنان كمال مسعودي الذي باغته الموت وهو في الـ37 من عمره، صاحب الروائع التي لا تزال تمثل محطات حنين لجيل كامل من الجزائريين الذين قرروا الوفاء لذكرى الرجل الملتزم بقضايا مجتمعه ووطنه وحتى القضايا العربية.
كمال مسعودي اسم لن ينساه الجزائريون، مغنّ رحل في أوج عطائه، فخلّدته رسائله الفنية ليبقى لامعا بعد 22 سنة من رحيله، غنّى عن الأم والوطن والهجرة والحب.
الشّاعر ياسين أوعابد الذي ارتبط اسمه باسم مسعودي من خلال الأعمال التي أنجزاها معا، يقول “كان إنسانا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حمل همّ الوطن، وكان يبكي مع كل من يتألّم، حتى الحيوانات كان لها نصيب من قلبه”.
ويروي أوعابد آخر لقاء له مع مسعودي قائلا “كنا قبل يوم واحد من رحيله بالمسجد، وقتئذ أطال الراحل السجدة حتى إنني تخيلته قد نسي نفسه وحينما أكمل قال لي حرفيا (علّها تكون ساعة إجابة)”.
المطرب الملتزم
رسخت أغاني الراحل في الذاكرة الجماعية لجيل ما انفك يبكي رحيل الشاب الخجول الذي لا يزال يشكل موته صدمة بعد عقدين من الزمن على الفراق.
رحل العريس قبل أيام من زفافه، ليس على يد الجماعات الإرهابية التي كانت تستهدف الفنانين في وقت “العشرية السوداء” التي مرت بها البلاد آنذاك، وإنما على يد إرهاب الطرق، حيث أودى حادث مرور مروع بحياته شتاء 1998.
ورسّخ كمال مسعودي صورة الفنان الملتزم بآلام جيله آنذاك، غنى للجزائريين الذين اضطروا إلى الهرب من بلادهم بعدما لاحقهم الموت وحاصرهم في كل اتجاه. ويكفي أن يذكر اسم كمال مسعودي في الجزائر حتى يبدأ الثناء بالإجماع على رجل التقت عنده كل الأذواق.
يقول رفيقه المقرّب الفنان محمد العمراوي “لا يختلف جزائريان اثنان على تقدير المغني صاحب الرسالة التي كتب نصفها وغادر قبل أن يكمل أبيات قصيدته عن الجزائر التي كانت في أمسّ الحاجة لأمثاله”.
وفي حديثه يقول العمراوي الذي جمعته بالراحل مسعودي عشرات الأغنيات “في أوج جماهيريته وعطائه، رحل الفنان كمال مسعودي تاركا ذكراه راسخة في جيل كامل”.
ولا يزال الجيل الوفي لمسعودي يبحث عنه في صفحات “اليوتيوب”، ويترك محبّوه تعليقات على شاكلة رسائل عرفان وتقدير، وهم يعلمون أنه لن يقرأها.
ويجتهد محبّو المغني صاحب القضية في تخليد ذكراه لكي لا ينسى وسط صخب الساحة الفنية الحديثة، كما يمتنّ الجزائريون للفنان الذي حملت آخر أغانيه “اعتذارا” وأبانت زهدا، في رائعة “الدنيا” التي قدّمها لأول مرة في برنامج تلفزيوني قبل الحادث بيوم واحد.
قدّم كمال مسعودي أغنيته الأخيرة كوصية قال في آخر بيت فيها على لسان الشاعر ياسين أوعابد “هاذي نصيحتي نتركها التالية باش نختم بيها الأبيات”، حيث وصف فيها الدنيا بـ”الفانية”، وكيف أنها قاسية على الباحثين عن السعادة.
أغرى ماجدة الرومي ولمجرد
تعد أغنية “الشمعة” واحدة من روائع الفنان التي قدّمها في عنفوان الأزمة الأمنية التي مرّت بها الجزائر سنة 1991 حيث انفجر العنف والدم، فتغنى مسعودي فيها بـ”الأمل” رغم صعوبة الوضع، وكانت أولى أعماله التي أخرجته إلى نور الفنان ذي الصيت والشعبية.
الشمعة” هو عنوان الأغنية التي أعادت تقديمها المطربة اللبنانية ماجدة الرومي تخليدا لذكرى كمال مسعودي، وحين قررت الأداء باللهجة الجزائرية وضعت يدها على “جرح الملايين” ممن افتقدوا المطرب الذي “لا يبتسم”.
قال مسعودي في كلماتها “مالي مال ومال الشمعة ما ضوتلي في ظلام ومال السعد ما سقملي ليام”، مخاطبا الحظ سائلا إياه عن سبب إدارته ظهره له، وكيف للشمعة ألا تضيء الظلام؟
كما غنّاها الفنان المغربي سعد لمجرد وأعاد توزيعها، وحرص على أدائها في جميع حفلاته، إلى جانب حمزة نمرة وغيرهم، ولا تعد “الشمعة” الأغنية الوحيدة التي يترحم الجزائريون على روح مسعودي لتركها إرثا لهم.
فلا تزال تُبكي الجزائريين أغنية “نجوم الليل” التي أعاد أداءها شباب ركبوا قوارب الموت واختاروا الهجرة نحو المجهول هربا من وضعهم الاجتماعي الصعب في بلادهم، يقول مسعودي فيها “خليت بلادي ورحت لبلاد الناس تكواو كبادي.. ليل نهار عسّاس”.
ترك”رائد موسيقى الشعبي”، أزيد من 90 أغنية موزعة على 16 ألبوما، أدّاها عبر مسيرة فنية بدأت سنة 1991 وأنهاها الموت حين باغت مسعودي على الطريق السريع بالعاصمة في ليلة من ليالي ديسمبر/كانون الأول الماطرة من عام 1998.