لا أريد أن أخوض في تفاصيل انتحار جوزي، زوجة فرانز فانون، فهي مؤلمة وصادمة، ولا أريد للقارئ أن يتألم ويُصدم. فقد قضت آخر أيامها في عزلة كئيبة، وأحسّت أن الجميع تخلّى عنها، وأن الجزائر، التي ضحى من أجلها زوجها تتأرجح بين مصير مجهول وأحضان الأصولية. كان ذلك، بالنسبة إليها، زمنا أسود، فانتحرت وذهبت، كما ذهب زوجها، من دون عودة ولا ذكر.
قصة انتحار جوزي فانون يجهلها الكثير، ومرّت في الصحافة كخبر ضمن المتفرقات، ونُسيّت القصة إلى أن نفضت عنها الغبار في سنة 1995 الأديبة آسيا جبار في كتابها “الجزائر بلونها الأبيض” Le Blanc de l’Algérieالذي تُرجم إلى الانجليزية Algerian White 2003 ،ولم يُنقل إلى العربية إلى اليوم!.
“الجزائر بلونها الأبيض” هو عودة أصدقاء آسيا جبار من العالم الآخر لملء فراغ صفحات كتابها: البير كامو، جان عمروش، فرانز فانون، مولود معمري، كاتب ياسين، جان سيناك، الطاهر جاووت. تروي فيه اللحظات الأخيرة من حياتهم وموتهم، إما مرضا، وإما غمّا، وإما انتحارا، وإما قتلا. وتتخلل الكتاب مظاهر انفلات العنف، التي عاشتها الجزائر في العشرية الأخيرة من القرن الماضي.
التقت جوزي، وعمرها 18، فرانز فانون في جامعة ليون، حيث كانا طالبين. وارتبطت حياتها، بعد زواجهما، بنضاله في تونس وغانا وغينيا، حيث كان زوجها مبعوثا خاصا للحكومة المؤقتة، ورافقته أثناء مرضه إلى الولايات المتحدة، حيث توفيّ بمرض سرطان فقر الدم. بعد الاستقلال عملت جوزي في الصحافة من 1962 إلى 1977، كما اشتغلت في فرع الإعلام لجبهة التحرير الوطني، وبعد ذلك في مجلة Demain L’afrique الصادرة في باريس. وهي مناضلة معروفة ومحبوبة في وسط الصحافيين القدامى. بعد هزيمة 1967 طالبت بحذف المقدمة، التي كتبها جون بول سارتر لكتاب زوجها “معذبو الأرض”، بسبب مواقفه المساندة للكيان الصهيوني.
وفي 13 جويلية 1989، وضعت حدا لحياتها.
كانت صديقة لآسيا جبار، يلتقيان باستمرار في الجزائر وباريس. وكان آخر لقاء لهن في أوت 1988 في قرية على شاطئ البحر غير بعيد عن العاصمة، حيث تمتعتا بمفاتن الطبيعة وسحر البحر.
وحلّ شهر أكتوبر، وحلّت معه مآسيه.
تروي آسيا جبار أن جوزي شاهدت من بلكونها الشباب والمراهقين يضرمون النار في سيارات الشرطة، وسمعت من جيرانها عن قتلى باب الواد، وكانت كلّما سمعت بسقوط ضحايا تصرخ بصوتها المسعور:” إنهم معذبو الأرض”. وتواصل آسيا جبار قائلة:” في جوان قامت بزيارة إلى الحدود الجزائرية التونسية للترحم على روح زوجها، وأنا متأكدة أنها بذلك اتخذت قرارها للالتحاق به. وفي تونس زارت كل الأماكن التي عاشا بها. وبعد عودتها إلى الابيار أمضت أسابيع في ترتيب أغراضها: الصوّر، الأشعار التي كانت تكتبها، ورسائل زوجها فرانز. واهدت لجارها، الشاب كريم، هدايا مختلفة، وحين كان يرفض كانت تقول له”لتتذكرني”. كانت تعالج عند طبيب نفساني، ودخلت المستشفى بشرط أن يسمح لها الطبيب الخروج في نهاية كل أسبوع لسقي ورودها وسماع أصوات الجيران والاطمئنان على كريم وأمه.
بقيت في مستشفى الأمراض العقلية ستّة أيام أخذت معها كتبها وموسيقاها. السبت انتظرتها الممرضة، لكن في اليوم السابق، فجرا، فتحت جوزي نافذة غرفة نومها، المطلّة على الشارع، وألقت بكرسي منه، وخلعت حداءها، وألقت نظرة خاطفة على الغرف، كل شيء في مكانه، وألقت النظرة الأخيرة على أزهار الجيرانيوم في شرفات الجيران… وألقت جوزي فانون نفسها من نافذة شُقتها في الطابق الخامس.
في سقوطها لم تصب جوزي أحدا… تفجرت فقط”.
حين رويت للرئيس الشاذلي بن جديد، وهو من دفن زوجها مع كتبه، قصة وضعها حد لحياتها صُدم وتـألّم وقال لي:”يا إلهي هل حدث كلّ هذا في الجزائر؟” قلت له:”نعم سيادة الرئيس، هذه هي الحقيقة”، فردّ عليّ :”إن كانت هذه هي الحقيقة، فهي مرّة ومؤلمة”.


عبد العزيز بوباكير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *