من الانعكاسات الإيجابية لجائحة كورونا على الفكر الإسلامي ، أنها عادت بالمؤمن إلى أصله الطبيعي وفطرته السليمة ، القائمة على التضامن والتعاون والتآزر:إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
فالإنسانية برمتها تعيش هذه الأيام زمنا متجانسا، تشعر فيه بالألم المشترك، والتطلع للخلاص من شبح هذه الجائحة التي عصفت بالمعمورة شرقا وغربا، حتى بدا كأن العالم اليوم بدأ يتحدث لغة كونية واحدة، لغة صامتة عنوانها الصبر والصلاة والصوم واليد الممدودة للآخر قال تعالى :وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان…
من البديهي في ظل هذا الإحساس الإنساني الإيماني المشترك أن تتأثر علاقة الفرق الإسلامية والاختلاف في الفكروالتوجيه إلا القليل القليل،وظهر التلاحم البشري الذي أفرزه الوباء العالمي، وأن تعود الفرق إلى أصلها الطبيعي في التلاقي والتحالف، من أجل بناء الإنسان وتحقيق الغاية من وجوده، بعيدا عن مشاهد التعصب والتشنج، وأعطاب الهويات القاتلة.
فتاوى جديدة في زمن كورونا: تفاعل وانفتاح بين الفرق الدينية والمذاهب الفقهية
لا سبيل لإنكار انعكاسات جائحة كورونا في توجيه مؤسسة الإفتاء في جميع الدول العربية وحتى الدول الأوروبية نحو تطويع أجوبتها حول النوازل الواردة عليها من أبناء مجتمعها والإجابة على انشغالاتهم بما يتماشى وظروف وقوانين البلاد التي تعيش تحت كنفها، ودعوتها للتآزر والتعاون مع الآخر.
فلجنة الفتوى بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف صاحب طرق الوقاية بالشرح والتوضيح بقواعد فقهية تأصيلية لفقه النوازل ، سواء بما تعلق بالشعائر الدينية كغلق المساجد ـ الصيام ـ شعيرة الجمعة ـ صلاة الجماعة ـ طريقة تغسيل وتكفين والصلاة على شهداء جائحة كورونا ـ تقديم إخراج زكاة الفطر ـ أو زكاة المال ـ واتباعد الاجتماعي.
إن نظرة راصدة لمجموعة من النوازل والفتاوى التي قامت بها لجنة الإفتاء مشكورة في الحالات الناتجة عن توصيات المنضمة العالمية للصحية ، وتفكيك نسيح مكوّناتها، وطرق الوقاية منها ، يجعلنا نضع الإصبع على خانة من الخانات التي تعكس تطور العقل الفقهي والفكر الديني ، وانفتاحه وتفهمه ،وتفاعله مع شروط والظرف الوقائية التي يحب الالتزام بها، وحرصه على التأقلم مع أزمة الوباء، ومع قوانين الحجر الصحي التي أعلنتها السلطات الجزائرية حفاظا على الأرواح .
فلجنة الإفتاء سعت جاهدة لتوسيع منظورها، وترحيلها من الدائرة التشريعية والأحكام الفقهية الصرفة نحو أفق التفاعل المركّب مع الدائرة المتخصصة العلمية والعالمية ، لأن الوباء عالمي بامتياز، ولا يمكن الإجابة عن النوازل المطروحة إلا من خلال تفاعلها مع الوسط العالمي بفقه النوازل وإنزالها على واقع الناس.
هذه النازلة ـ كورونا ـ استنطقت ما تتميز به الشريعة الإسلامية من لون متجدد، متفاعل مع تغيرات الأزمنة، واختلاف الأمكنة، ومراعاة الاستثناءات، وتطويع النصوص والأعراف في أزمنة الشدة،مما استلزم على لجنة الفتوى بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف بالتحاور مع الوضع الاستثنائي بكافة أشكال الليونة، لأن مثل هذا الوضع تترتب عليه قضايا جديدة تتطلب من العقل الفقهي عدم الانزلاق في حفرة الجمود والتحجر،والتعامل معها بمواقف تتسم بالتعقل والاجتهاد الذكي.
والقليل مشوا على الفكر الفقهي التقليدي لهذه النازلة ، جائحة كورونا، لإفتقارهم إلى فقه الاستشراف، وغلبة عندهم العاطفة على العقل، وانفصال التكوين الفقهي عن العلوم الطبية، ومن ثمّ يجب النظر في منظومة الدراسات الشرعية والندوات وينبغي أن يتكيف العقل الفقهي عند الأئمة والدعاة ومن يصنعون ويوجهون الرأي العام في المجتمع مع مجموعة من المتغيرات التي رافقت وباء كورونا، أو حالات مشابهة لها كالوباء الاقتصادي والأوبئة الأخرى التي تهدد الكليات الخمس وهي على الخصوص: مراعاة ظرفية الأزمة الحلّ الواقعي والتيسير، ورفع الحرج، وجلب المصالح، واحترام بيئة الاستقبال، وضرورة سرعة تنزيل الفتوى بما يتلاءم مع مستجدات الوضع الصحي التي تتغير يوما بعد يوم، وغيرها من المعايير التي يتبناها الفقه المقاصدي، هذا التكيّف التي قامت به لجنة الفتوى مع الواقع الوبائي من خلال تحذيرات وتوجيهات وإرشادات وندوات عن طريق القنوات ووسائل التواصل الاجتماعي،عند تأطيرها لنوازل كورونا، وحرصها على عدم وقوعها في فخّ المقارنة والمماثلة بين المواقف من الجوائح التي عرفها التاريخ الإسلامي الباكر،من دون فهم تغير الزمن التاريخي الذي أنتجها، ذلك أن مقارنة الأوبئة المعاصرة من قبيل إنفلونزا الخنازير ،جائحة كورونا ، الطاعون أووباء الجدري عام الرمادة أو غيرها من الجوائح والأوبئة التي حصلت زمن الصحابة ومن بعدهم، ينبغي أن يحكمه ضابط مراعاة تغير الظروف وتفاوت الأزمنة عند إصدار الفتوى.
صحيحٌ أن الجامع بينها أنها أوبئة، إلا أن الظروف والأزمان مختلفة ومتباعدة تشكل نوازل الجنائز والدفن والاختلاط والتباعد في هذه الجائحة ،منها أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن المشقة تجلب التيسير، ولا تكليف إلا بمقدور، ولا واجب مع العجز ،خاصة في حالات استثنائية كغسل المصاب بهذا الوباء،وتكفينه،والصلاة عليه، ودفنه.
كما أن التغيرات التي طرأت على بنية الفتوى بالنسبة لجائحة كوروناوتأقلمها مع ظرفية هذا الوباء ، وتجسيدا للتقارب الذي حصل بين لجان الفتوى بالدول العربية ،تمثل نقلة نوعية في هكذا حلات واصبحت الثقافة المجتمعية تفرق بين الفتوى التي تتغير زمانا ومكانا وفق واقع الناس ومستجداتهم وثقافة الأحكام الفقهية التي لا تتغيربناء على المرجعيات القرآنية والحديثية، وليونة الفتاوى تجاه التداعيات التي تسببت فيها جائحة كورونا؛ إذ ورد على هيئة الفتوى بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي كما هائلا فكانت الإجابات مبنية على القواعد الأصولية والأحكام الفقهية واستنباطها من أدلتها التفصيلية،مما ساهم على التفاعل الفقهي، وتطوير فقه نوازلي وبائي، وخطابات تآلفية تضامنية، وتسامح ديني لا تخطئ العين السليمة في رؤيته، وهو ما نقوى على بيانه من خلال عدة مشاهد نذكر منها:
– المبادرات التطوعية للجمعيات والمجتمع المدني ودور المساجد والأئمة في مرافقة والدعوة إلى التعاون والتضامن.
– وفي الاتجاه ذاته، التصدق وجمع المواد الغذائية وقفة العائلات تحت الحجر الصحي وهي من ضمن مشاهد التضامن والتآزر؛كما أن الآذان في المساجد يسمع رغم فراغها من المصلين. يصدع الإمام بدعوة الناس إلى التآزر والتضامن.
وحتى في ظل الإغلاق الذي طال المساجد ، بث الأئمة فيديوهات يوتيوب بالشرح وطرق الوقاية والنصح والتوجيه وشرح وتبسيط البيانات التي تقوم لجة الإفتاء بإصدارها .
بقلم الأستاذ/قسول جلول
باحث وإمام مسجد القدس بلدية حيدرة