بقلم:يوسف وغليسي
هذه شهادة حميمة في حقّ الصديق الدكتور صالح بلعيد (رئيس المجلس الأعلى للغة العربية)، قرأتها في حفل تكريمه بمكتبة المطالعة الرئيسية (سكيكدة) السنة الماضية، وأتعمّد نشرها -اليوم- في رأس السنة الأمازيغية !
** ** **
يسألونك عن العبد الصالح صالح بلعيد، قل إنه سليلُ المشذاليين ذوي الأيادي الغراء على حضارتنا الإسلامية، وحفيد ابنِ معطي الزواوي (ت. 628 هـ)؛ صاحب “الدرة الألفية” التي ما كان لألفية ابن مالك أن تكون لولا استنادُها إليها…
أمازيغيّ الأرومة، عربيُّ اللسان والحال؛ بقوة القانون النبوي الشريف : “من تكلم العربيةَ فهو عربيّ”…
شَرَح تراثنا اللغويّ وشرَّحَهُ،، وقرأ المنظومات النحوية وأقرأَها،، ودرس (اللسانيات التطبيقية) ودرَّسَها…
أحاط بالنّحو وتراكيبه وأصوله، وشَمَلَه ويسَّرَه، ونبش (مصادر اللغة)، وتفقّه في اللغة، وتابع قضاياها المعاصرة…
دافع عن (الهوية الوطنية)، ونافح عن العربية ونهضتها…
أشاد بعبقرية الخليل بن أحمد، وأُغرِم بـ (نظم) عبد القاهر الجرجاني…
خاص في (المسألة الأمازيغية) ببراءة علمية، منزوعة الغايات الإيديولوجية، وحذّر من الأخطار المُحدقة بها، ودعا إلى كتابتها بالحرف العربي؛ حرصا على توثيق صلتِها بمكوّنات الهوية الوطنية، وناضل علميّا في سبيل تفادي (الفتنة البربرية) ومضاعفاتها السياسية…
أسْهم في تحقيق المعجم العربي الأمازيغي،، وأشرف على المعجم العربي القبائليّ…
دبّج المقالات العلمية والمقامات الإبداعية..
كرّس قدرا ليس باليسير من جهوده للاهتمام بهموم اللغة، وقضايا المواطنة اللغوية، والأمن اللغوي، والتعايش اللغوي السّلمي…
تعرّفتُ إلى صالح بلعيد منذ سبع وعشرين سنة، ذات ملتقى لرابطة (إبداع) الثقافية الوطنية في قسنطينة؛ حيث حضر برفقة حرمه المصون الباحثة المتلألئة آمنة بلعلى، وكانا حديثيْ العهد بالقفص الذهبي!
أذكر –فيما أذكر- أنّ زوجته قد تألقت في مداخلتها حول الشاعر عيسى لحيلح وبعض مجايليه، بينما قدّم هو مداخلة حول سليمان العيسى، وقد بدا لي يومها أنّ احتفاء زوجته بشعرية لحيلح أمر طبيعيٌّ، بحكم القاسم الإسلامي المشترك في جزائر مطلع التسعينيات، لكنّ عقلي الصغير –وأنا في عزّ غرارتي وبراءتي وطراوة عودي- لم يستوعب يومها سبب احتفاء كاتب جزائري أمازيغي بشاعر بعثيّ كبير من أكبر رموز القومية العربية!
لكنّ ما لم أستوعبه -وقتذاك- صار اليوم مفتاحا سحريا في فهمي لشخصية هذا الرجل الذي سأظل مدينا له بكثير من الأفضال؛ ومنها أنّه بمجرّد تنصيبه رئيسا للمجلس الأعلى للغة العربية سارع إلى تأسيس لجان لغوية نصّ عليها الدستور الجديد، وقد جعلني مقرّرا لإحداها (لجنة ازدهار العربية)، فكان ذلك فرصة لإعادة اكتشاف القيم الإنسانية والوطنية النبيلة التي تزخر بها أعماق الرجل.
النبل.. البساطة.. الطيبة.. التواضع.. الاحترام.. المرونة.. الإيمان.. الوطنية… هي أبرز المكوّنات السيميائية لهذه الشخصية/ العلامة الجزائرية المسجّلة، والتي جعلته يحظى بحبّ الجميع.
أذكر أنّ صديقنا الكبير، وزميلنا في لجنة (ازدهار العربية)، الدكتور عبد الجليل مرتاض كان كثيرا ما يثير فضولنا باستعداده الأبديّ لتلبية أيّ دعوة تجيئه من صالح بلعيد، مهْما نأت الدار وشطّ المزار، وحين سألناه –بقليل من الاستغراب- عن التضحيات الجسام التي كان يبذلها في سبيل ذلك، ودون أيّ مقابل !، لا سيما التنقل البرّي الطويل من تلمسان إلى العاصمة أو تيزي وزو، ممّا لا يناسب شيخوخته! أجابنا : أفعل ذلك نصرة لصالح وحبّا له، وكفى!.
كلّ من يزور هذا الرجل الطيّب/ أعني هذا الوليّ الـ(صالح) ! في بيته أو في مختبر (الممارسات اللغوية) بتيزي وزو، أو في المجلس الأعلى بالعاصمة، لا بدّ أن يعود محمّلا بالكتب والهدايا.
بل أشهد أنّنا كنّا نذهب -أحيانا- إلى جامعة تيزي وزو لمناقشة بعض الرسائل الجامعية (التي لم يكن طرفا فيها لا مشرفا ولا مناقشا)، لكنّه كان يصرّ على أن يقوم معنا بوظيفة صاحب الدار الذي يسهر على راحة ضيوفه، وأن يتحوّل إلى مرشد سياحي يجول بنا في مسالك القبائل وممالكها، لا يتركنا حتى يعود إلينا ليتفقّدنا –في فندق (عمراوة) عادةً- كما يتفقّد طائرٌ صغارَه في العشّ! ويأبى إلا أن يظلّ مسؤولا على سلامتنا الجسدية، حتى بعد مغادرتنا، فيصرّ على إعطائنا بعض ما جنت يداه من زيت الزيتون!…
وقد يفعل ذلك حتى في أقسى الظروف؛ كما حدث له مع عَبدَيْ الله : حمادي وبوخلخال، في قصة مأساوية شهيرة وقعت منتصف التسعينيات! …
صالح بلعيد -باختصار شديد- فخرُنا الأخلاقي، وشرفنا الأكاديمي، وسفيرنا المفوّض في المجامع اللغوية العربية، وجسرُنا العملاق بين ضفّتيْ الهوية اللغوية الوطنية؛ فهو الأمازيغيّ الذي عرَّبَتْهُ العقيدة الوطنية!…