نظام الاتصال: قوة الوسيلة وضعف الرسالة
بقلم:عاشور فني
ينبغي كشف آليات استعباد الناس من طرف نظام لا تعنيه غير مصلحته لكنه قادر على إخضاع السكان للسلطتين الأكثر استبدادا: المال في النظم الديمقراطية والسياسية والسياسة في النظم المستبدة: تلك هي آلية الاستلاب. أظهار مصلحة النظام على أنها مصلحة الجميع. هناك إجماع على تزايد القدرات الهائلة لوسائل الإعلام لكن يقابل ذلك ضحالة إعلامية وابتذال لا سابق لهما. ما السبب في ذلك يا ترى؟ ذلك ما نريد كشفه وفضح آلياته الخفية. بين الخضوع للتسلط السياسي في القنوات الحكومية أو للتسلط الاقتصادي للمحطات الحرة ضاع جوهر الخدمة الإعلامية. للهزال الإعلامي أسباب هي هذا النظام الاقتصادي الذي أخضع الإعلام لمنطق الاتصال. من القنوات الإخبارية إلى القنوات الرياضية والموسيقية ومن الأفلام الوثائقية إلى التغطية المباشرة: الإثارة بديلا عن المعلومة والتحريض بديلا عن الوعي والتضليل بديلا عن التحليل وزرع الحقد بديلا عن تنمية العقل. تلك هي نهاية وسائل الإعلام وبداية عصر الاتصال. شلال الإثارة لا ينتهي. وأفضل من تغطية الأحداث خلقها ربط نبض المشاهد بالشاشة
صراع الثورين الأبيض والأسود
ليستقيم الأمر ينبغي تحويل العالم إلى فرجة: استعراض un spectacle . إن لم تكن الفرجة متوفرة في الأحداث الجارية وجب خلقها ليستمر العرض وتستمر المشاهدة: ذلك ما يقتضيه منطق التدفق الإعلاني الذي يمول النظام برمته: نظام الاستهلاك ونظام الوعي ونظام الحكم.
صراع الثورين الأبيض والأسود ضروري لكي يستمر النظام: فلا بد من ثورين عظيمين أحدهما أسود وثانيهما أبيض ليسهل التمييز بينهما وينقسم الناس إلى مؤيدين ومعارضين: قوانين الفرجة تتطلب ذلك. هذا الثوران يظهران في مباراة كرة القدم وفي المصارعة الحرة وفي مقابلة الرآي والرأي الآخر وفي التغطية المباشرة وفي الفلم الوثائقي وفي فيديو الأغنية وفي حديث الشيخ وفي لعبة الصبي وفي خشونة البعل تأوهات الأنثى وفي رقصات الفتيان والفتيات وفي لعبة الأكاديمية: في كل هذه الحالات ينتظر المشاهد نهاية الصراع وانتهاء الجولة بسقوط أحد الثورين وانتصار الثور الآخر.ثوران عظيمان يظهران في كل الحصص وفي كل الأشكال والأوقات يضمنان توازن النظام. ذلك هو ضمان الإثارة القصوى واستمرار تدفق الموارد الإعلانية للمحطة التلفزيونية التي تضمن استمرار نظام العالم : نظام الاستهلاك ونظلم الوعي ونظام الحكم.
تفعيل الاتصال تعطيل الإعلام
سيطر المال على وسائل الإعلام إلى درجة أنها لم تعد قادرة على أداء الوظيفة العادية التي نشأت من أجلها: وظيفة الإخبار والمناقشة والترفيه والتسلية والتداول في الشأن العام: تنوير الرأي العام زيادة فرص الاختيار أمام المواطن الحر. فما هو دورها الجديد؟الدور الجديد لوسائل الإعلام هو استعباد المستهلك: تقليص فرص الاختيار أمامه لئلا يجد وسيلة للحياة غير المزيد من الاستهلاك. هكذا أصبحت قنوات تبليغ ذات مهام اتصالية: ترسل رسالة لتؤثر في الموقف أو في الفكر أو في السلوك ودفع المتلقي في اتجاه واحد: لا نقاش ولا تفاعل. تبليغ فقط. انتهى عصر وسائل الإعلام وبدأ عصر الاتصال.
تصفحوا هذه الصحف الفارغة إلا من السفاهة والتسطيح وتزييف الوعي وتشويه الحقائق. استمعوا إلى هذه الإذاعات التي لا تذيع غير التفاهة ولا تدعو لغير الضياع. كل هذه الوسائل كان يفترض أن تجلب أخبارا صحيحة موثوقة وأن تفتح نقاشا حرا وأن تثير المسائل التي تهم الجمهور وأن توفر ترفيها ذا مستوى جيد يحترم العقل ويحفظ كرامة الإنسان وتبتعد عن التحريف والتحريض والتحرش والسفاهة وتسمح للناس بمناقشة القضايا التي تهمهم. لم يعد نظام “المال والأعمال” المتحكم بها يسمح لها بأداء تلك الوظيفة. هذا هو ما أعنيه بنهاية وسائل الإعلام.
الوعي؟ وعاء مسلوب الإرادة
هناك آليات لتعليب الوعي وتنميط الصورة والسلوك. هي تطبيق لآليات الاتصال في منظومة الإعلام هذه الآليات يعرفها المختصون في الإعلام جيدا ويدرسونها: عشرات الرسائل والمذكرات حول هذه المسائل: مثل الموضوعات المحددة في مخابر المخابرات. الضيوف الموجهون عن بعد.الجمهور المفبرك. الأحداث التي تم إخراجها في الأستوديو. شاهد العيان الذي لا يشاهده أحد. الماطراكاج. التشويه. التحريف. التزييف. صنع القضايا وجر الناس لمناقشة ما لا يعنيهم. وضع الكلام على السنة الخبراء المزيفين. الدم السائل على الشاشة ليل نهار. الصراخ. العنف المقصود. تعطيل عقل المشاهد. التهويل. التخويف. النشرات المسلسلاتية. حلقات متتالية بنفس الشخوص والرموز والقضايا المعكوسة تحت نفس عنوان . البكاء المستمر في نشرات الأخبار. الأحداث أصبحت “أزمة” يمكن جعلها مسلسلا تلفزيونيا طويلا لتكييف عقل المشاهد. مسلسل طويل له هدف ملموس خارج التلفزيون: التحكم في وعي الأفراد ومواقفهم وسلوكهم: تثويرهم أو تنويمهم. تزكية اختيارات السلطة المالية في الديمقراطيات الغربية وتزكية السلطة السياسية في الممالك المستبدة. هذا ما اعنيه ببداية عصر الاتصال. وسائل لإعلام أصبحت سلاحا قويا في صنع السياسات وفي توجيهها فضلا عن صنع الرأي العام وتوجيهه. تحويل وعي المتلقي إلى وعاء مسلوب الإرادة. يتقبل كل أنواع المحتويات: يمكن شحنه وإفراغه بكل سهوله.
من يتذكر الآن الحرب التي شنتها الدول الغربية على ليبيا تحت غطاء الناتو وبتغطية من قناة الجزيرة القطرية وبفتوى من القرضاوي؟ تبدو بعيدة جدا. ما الذي وقع فيهابالضبط؟ ثار الشعب ضد الحاكم فتدخلت القوى الغربية واحتلت البلد خوفا من ان يجري ما جرى في تونس وليبيا: طرد الزعيم وتحالفاته السابقة. في ليبيا ذهب الزعيم وبقيت تحالفاته الدولية. لماذا؟ نفط ليبيا ضروري لاستقرار السوق النفطية وصفقات إعادة البناء ضرورية للخروج من أزمة الاقتصاد الغربي. دكت البنية التحتية ويعاد بناء ليبيا بأموال الشعب. لعبة “المال والأعمال”. مرة اخرى. هذه هي صناعة الرأي العام. كانت ليبيا قضية تملأ حياة الناس وها هي اليوم نسيا منسيا. سوريا اليوم هي الهدف. لذلك ينبغي أن ينسى الناس ما جرى في ليبيا. كل حلقة في مسلسل الربيع العربي هي تابعة للحلقات السابقة وتمهيد للحلقات اللاحقة. لكن الأجزاء محبوكة بطريقة مختلفة.
نهاية وسائل الإعلام تعني – في ما تعني- استمرار الأزمة لكي تستمر السيطرة على الوعي.