بقلم: حسان زهار
لم أقف منذ حادثة اغتيال الزميلة خديجة دحماني، سنوات التسعينات والارهاب، في صحيفة الشروق العربي، موقفا كهذا ، لأرثي فيه عزيزا لي، كما أشعر الآن وأنا أحاول الكتابة عن الصديق العزيز ، النذير مصمودي، والسبب أنه كان في أيامه الأخيرة قريبا جدا مني، وكأنه كان يودعني بطريقته الراقية إلى مثواه الأخير، كما عرفناه بروعته في الحياة.
وما يثير الشجن، أني في ليلة وفاة النذير، اتصل بي معتذرا، عن عدم قدرته عن كتابة قطرة حبر التي بدأ في كتابتها معنا في “الحياة” منذ حوالي الشهر، وقد راعني أن صوته على غير المعتاد، كان خافتا، والضحكات التي كانت دائما تلازمه غائبة، فسألته وقد كنت بدوري مريضا بالزكام، عن حالته الصحية، فأخبرني أنه مزكوم ، ثم دخلنا في جدال عمن هو مريض أكثر، قبل أن أقتنع أنه بالفعل أكثر مرضا مني، بسبب طبيعة صوته المختلف .
في تلك المكالمة التي لم أكن أعلم أنها الأخيرة، حدثني الراحل عن تعبه الشديد، وعن عملية “الرحلة” التي يقوم بها لتغيير مقر جريدة الشاهد إلى مقر آخر، أحسست وهو يحدثني أنه من كان يحمل المكاتب على ظهره، قبل أن يخطرني أنهم يحضرون “الشاهد” في صحيفة الحقائق، عند الأستاذ بشير حمادي، وأنه بسبب غياب الأنترنيت عن الحقائق وعنهم، لم يكن أمامهم إلا تحضير الجريدة عبر “الفلاش ديسك”.. كانت الحسرة والتعب والألم، تملأ ذات الصوت الذي طالما زرع من حوله الابتسامة والفرح، ولست أدري لماذا كنت أشعر أني أكلم رجلا مختلفا، وإذ به رجل مودع.
في الأيام الأخيرة من حياة مصمودي، وعلى خلاف ما كان بيننا من معرفة سابقة، تسبق تعاملي معه في جريدة الشاهد في بدايتها، وكتابتي فيها، كان يصر أن يكلمني يوميا بالهاتف، يقول أنه يحب أن يزيل عني تعب العمل الشاق في الصحافة، وأنه لأجل ذلك قد حضر لي مجموعة من النكت ستنسيني ذاك التعب.
أكثر من ذلك ، أصبح يطلب أن نتناول غداءنا معا، وعلى غير العادة، قال لي أنه كره المطاعم الفخمة، وكره النفاق الذي فيها، فقررت قبل أسبوع، أخذه إلى مطعم شعبي في شارع طنجة، كان من بين سر اكتشافاتي في المدينة، وكم كانت فرحته كبيرة لهذا الاكتشاف، أكتشاف الناس البسطاء، وأكلة السردين” الشهية، وسط أكوام الفقر المغموسة بالطيبة .
في آخر جلسة غداء، رأيت نذير يأكل كأن لم يأكل من قبل، قال لي وقتها، أنه زار بقاع الدنيا كلها تقريبا، وتذوق من أطعمتها الراقية كلها، لكن بنة هذا المكان لا مثيل له، كنت وهو يحدثني أحس بفرح خفي، لإدراكي، ان النذير، زيادة على أنه فنان في الكتابة ومداعبة الحرف، بشكل استثنائي، هو طباخ ماهر، يندر وجود مثله في الجزائر كلها، وقد كان لي شرف تذوق طعام أعده ما زلت إلى يومنا هذا أذكره.
بأمكان النذير المبدع، أن يقرأ تعويذته على أي طبخة للتحول إلى نكهة من كوكب آخر، وكذلك كانت رؤيته للاشياء والحياة، حين أراد أن يخلق التميز في بلد لا يؤمن بالمتميزين.
أطنبت في حديثي عن الطعام، وأنا مدرك لذلك كل الادراك، هروبا من الغوص في عالم الابداع، فقد كان شديد التألم من وضع البلاد والثقافة والاعلام، وبينما كان في بداية تجربته لاطلاق صحيفة “لشاهد”، يحدثني بحماسة عن رغبته في تغيير العالم وليس الجزائر وحدها، فاجأني قبل أيام من هذه الوفاة المفاجئة، بوقله أنه يتمنى لو يمتلك طاولة لبيع السجائر على حافة الرصيف خير من “توجاع الراس انتاع الصحافة”.
بالنسبة لي لم يكن الأمر مفاجئا، فالنذير الرائع، الذي كان يحمل على ظهره هموما تنوء على حملها الجبال، مرتبطة اساسا بتمويل الجريدة، كان يواجه كل ذلك بالضحك والسخرية وابداع النكت والحكايا التي كان ينسجها من عمق الواقع البسكري القديم.
في آخر لقاء لي به، كان يريد أن يحمل عني المظلة ، لتواضعه الرائع، وقد كان الجو ماطرا، فأبت نفسي إلا أن أحملها له رحمه الله، بدعوى أني أقل سنا منه .. لقد طان يواجه بشاعة العالم بلباسه الأنيق دائما، كجزء من فلسفته في الحياة.
لم يكن يحب أن يتحدث معي عن الزوابع التي أثارها حوله الاسلاميون بخصوص كتابه الأخير “متى يدخل الاسلاميون في الاسلام”، ربما لإدراكه أني واحد من أولئك الاسلاميين، لكنه كان يقول لي دائما، أنت منهم لكنك مختلف ، قبل أن أرد عليه بل أنت منهم لكنك مختلف.
لقد كان التحاق النذير ب”الحياة” بعد طلب من الأستاذ هابت حناشي، وإلحاح مني، كان يقول أنه لم يعد له رغبة في الابداع، وعندما بدأ في كتابة قطرة حبر بدأها بخواطر عابرة، أقنعته أن يكتبها شعرا، وكم كان يطرب لتعليقاتي على تلك القطرات، وما كنت أدري، ولا كل محبيه، أنه كان يعتصرها من روحه، إلى آخر رمق منه.
ويكفي أن آخر ما اعتصرته تلك الروح الطيبة ، كان يحمل كل شيئ يريد أن يعرفه الآخر عنه ، إنها كلمات لآخر رمق، لآخر الكلام
أموت في جحيم النّور
ولا أعيش في جنّة الظلام
آخر كلام
لن أقول بعد اليوم حديثا ساحرا
لن احترم بعد اليوم أولاد الحرام
آخر كلام
تعدمونني ؟
ستبدأ قصتي من الختام
تسجنونني ؟
لن تروا بعد سجني أي سلام
لم أعد أخشى على نحري من نحركم
سأنهض لشتمكم يا أولاد الزّنا
شتمكم فضيلة يا أبناء الحرام
“دزّوا معهم”…
هذا آخر كلام