فِعلُ القراءة مرافق لفِعل الكتابة، فمن المستحيل أن تقرأ دون أن تكتب، وهذه هي مشكلتي في حقيقة الأمر، فبينما أنا منهمك بإدخال بعض التعديلات والتصحيحات على نص أطروحة الدكتوراه، حاولت الاطلاع على بعض الكتب الجديدة حتى أزيد وانقح في متن النص الأصلي، لكن دائما تخرج لي بعض الافكار من هنا ومن هناك، مثل ما يخرج ذلك الارنب الابيض من قبعة الساحر ويبهر الجمهور.
أثناء تصفحي لكتاب ميشال مافيزولي، بعنوان: تأمل العالم الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية، وهو كتاب يعنى بسوسيولوجيا الحياة اليومية، صادفتني مقولة استند عليها مافيزولي اثناء تحليلاته الماتعة، وهي لفيلسوف ألماني من اصول يهودية يدعى والتر بنديكس شونفليس بنيامين (15 يوليو 1892-26 سبتمبر 1940) كان قد قدم محاضرة سنة 1914، وربما في هذا التاريخ كانت السوسيلوجيا والعلوم الاجتماعية بصفة عامة في أوجها، وكانت الجامعات في الغرب في تلك المرحلة براكين تنفجر بالأفكار والنقد، حيث كان العقل في قمة نشوته، لكن رغم ذلك تأسف والتر على حال الجامعة الغربية التي بدأت تميل إلى تكوين المهنين والحرفيين، وبدأت تتخلى عن وظيفتها الأساسية وهي انتاج الفكر، والنقد، وإخضاع كل شيء لمنطق الفلسفة وإلى السؤال الذي يقود إلى سؤال، ولذلك شخّص والتر حالة الجامعة ومستقبلها بمقولة سوداوية، وتشير إلى أن الجامعة ستسير إلى حتفها، إذا ما هي تخلت عن التفكير واشتغلت بالمهن والوظائف، وقد نقلت تلك المقولة حرفيا كما نقلها مافيزولي في كتابه إذ يقول: “يصبح الطلبة عقيمين وتكف الجامعة عن المشاركة في النقاشات الأساسية للأمة حين ينسون متخيلهم، أي حين ينسون طوباوية معرفة لا هدف لها والبحث في الثقافة لذاتها، وهذا ما أسميه تشوها للروح الإبداعية وتحولها إلى روح مهنية، وبالفعل فإن الحياة الطلابية التي تنصاع كلية لفكرة الوظيفة أو المهنة لا يمكنها أن تؤدي إلى تعميق الحياة أو حتى أن تشكل تعلما حقيقيا لتلك الحياة، وهو ما يؤدي عبر النفع المباشر والآني إلى التخصص ومن ثم إلى تقليص الرؤية الشمولية مما يحول الطالب إلى قطعة قابلة للاستبدال من الآلية الاجتماعية”.
هذا ما تنبأ به والتر قبل أكثر من قرن من زمن وهو يتحسر على خيبة الجامعة بعد ان أصبحت مولعة بتكوين المهنين والحرفيين، بعيدا عن مهنتها الأصلية والأصيلة وهي النقد وتوليد الافكار، والدخول في السجالات العلمية، والرفض والنقد، والتمرد، أشياء لا يمكن فهم الجامعة بدونها وإلا اصبحت تلك الجامعة باهتة، وتعلم الروتين، وتنقل البديهيات، وتخرج المئات من المتشابهين الذين يتقنون بنفس البراعة والمهارة، فعل الاشياء التي حفظوها عن ظهر قلب في المدرجات أشبه بورشات العمل، التي تقتضي تكرارا الاشياء حتى نتعلمها، ثم تكرارها في الحياة حتى نتقاضى من ورائها أجرا، وهنا لا يتشوه الطالب وحده ويصبح عقيما على حد تعبير والتر، بل الجامعة كمؤسسة عليمة نقدية تصبح مجرد ورشة لبناء السفن مثلا، أو تصليح محركات السيارات، حيث يغيب الجدال والنقاش والمطارحات الفكرية، ويستفحل نموذج الأستاذ رئيس ورشة البناء مثلا، الذي يسدي التوجيهات العقيمة والرتيبة، ويثني على من يحسن إنجاز المهام الموكلة إليه، ويوبخ من يفشل فيها تأديتها، وينسى اهم شيء في حياته وهو التفكير، وتحريض الناس على التفكير.
الرجل يريد ان يقول أن تكوين المهنيين والحرفيين والعمال لا يحاج الى تكوين جامعي، ويمكن للمعاهد المتخصصة ان تفي بالغرض، بينما الجامعة ليست للأمور السهلة الجامعة للمهام الصعبة، ولا اصعب من التفكير والنقد وتحويل كل شيء الى موضوع قابل للنقاش والجدال، فحتى علماء الاحياء والميكانيكا، والذكاء الاصطناعي، والطب وغيرها يحتاجون إلى بداهة التفكير، وهم قبل ان يكونوا جراحين بارعين ومهندسين حذقين، هم مفكرون لديهم هم وشغل يشغل بالهم وذاتهم العارفة، فهم غير معفيين من التفكير في مجتمعهم، وفي رهانات هذا المجتمع وتحدياته، فالجماعة أعتقد انها بمنية على الفلسفة، وأين ما غابت الفلسفة غابت الجامعة، فلا يمكن تصور عقل يعرف بدون قدرة على تطوير هذه المعرفة والتساؤل حولها، وفتح النقاشات والنزول الى الميدان والانفتاح على المجتمع، فالجمعة تكون مبدعين لا يكرر احدهم الاخر، اما المهنيين والحرفيين فهم أشبه بقطع الغيار التي يمكن استبدالها بأخرى كل ما أصبحت عاجزة عن تأدية وظيفتها الروتينية، ولن يتغير شيء لن يشعر الناس بغياب عامل وتعويضه بعامل اخر، لكن الجميع سيعرف وسيشعر عندما يغادرنا مفكر، بمنهجه، وشخصيته، وتوجه، وخياراته، وربما لا يمكن لأخر أن يعوضه بنفس الدقة والاداء، بل سنكون حتما امام حقبة جديدة من الافكار والخيارات التنموية.
فالجامعة بكل بساطة تنتج الخيارات التنموية في طابعها الشمولي، والتي تحتاج الى مفكرين ولا تحتاج إلى عمال ومهنين، فالجانب التقني أمر سهل وبسيط، لكن ان تضع خطة تنموية تعكس خيارات المجتمع وتعبر عن صيرورته التاريخية، وتعكس فكرة أصيلة وأصلية، فهذا ليس بالأمر الهين ولا بالمقدور عليه، لا سيما عندما تفقد الجامعة خصوصيتها وتصبح كأي ورشة عمل كبير تعج بالتقنين والحرفين والعمال، بينما تتضاءل فيها نسبة المفكرين ويتراجع فيها التفكير، وبذلك تصبح مخرجاتها لا تختلف عن مخرجات أي دورة تكوينية مكثفة في تعليم الصباغة، أو التبريد، ويصبح المشرفين على الجامعة مجرد رؤساء ورشات وبدون أي مشروع فكري، وبدون أي نظرة مستقبلية، فالمستقبل مرتبط بالقدرة على التفكير والاستشراف والتخطيط، وهي افعال تحسنها الجامعة كمنتجة للفكر والمفكرين وليس الجامعة التي تنتج المهن والمهنيين.
بقلم: كرايس الجيلالي- باحث في علم الاجتماع السياسي جامعة وهران 2