تناولت في العديد من كتبي و في مختلف المحاضرات التي ألقيتها في أكثر من مكان ، و كذا سلسلة المقالات التي كتبتها في أكثر من جريدة أو مجلة علاقة المثقف بالسياسة عموما و بالسلطة .
محمد بوعزارة
و قد كان السؤال الكبير الذي يطرح في أكثر من محفل هو ضرورة اسهام النخبة و خصوصا المثقفين في القرار السياسي و في تغيير المنظور السلبي للسياسة من طرف عامة الناس الذين باتت السياسة بالنسبة للكثير منهم سوء أخلاق و فساد مالي و في وجود منظومة حكم تثير العديد من الأسئلة ليس في بلادنا فقط ، بل في مختلف البلدان التي تعيش عمليات مخاض وحالات و محاولات انتقال ديمقراطي عنيف تارة و سلس تارات اخرى.
و قد خاض العديد من فقهاء و خبراء القانون و السياسة في إشكالية دور النخبة و المثقفين عموما في السياسة .
فإذا كان البعض يرى أن دور النخبة و المثقف يجب أن يقتصر على الجوانب التنظيرية من تشريعات و نصوص قانونية و في بلورة رؤى سياسية و سياسات استشرافية في مختلف المجالات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية والعلمية و الثقافية و الأمنية،فإن هناك من يرى أنه على النخب و خصوصا المثقفين ذوي النظرة الاستشرافية ان يشاركوا في صنع القرار و ان يتجاوزوا الجانب التنظيري بمشاركتهم في تولي مختلف المناصب التنفيذية خصوصا في الوزارات العملية التي لها علاقة بالحياة اليومية للمواطن او تلك التي لها تأثيرات مستقلبية.
و لكن هذا الجانب مرهون باقتناع النخبة من جامعيين و مثقفين متشبعين بالنضال في ضرورة الاسهام المتعدد الأشكال في تنمية البلد.
على النخبة اذن أن تنخرط بفعالية في الحياة السياسية اولا من خلال النضال في مختلف الأحزاب الفاعلة و تقديم اقتراحات و برامج عملية قابلة للتطبيق و عبر خطابات مقنعة ،لا علاقة لها بتلك الخطابات المكتوبة التي يلقيها بعض المسؤولين في مهرجانات شعبية و التي لا تحدث أي تأثير لدى الحضور ،و من ثمة فإنه على المثقفين ألا يبقوا على هامش السياسة، بل أن يعيشوا عمق السياسة.
فالمثقف المناضل لابد ان يترشح تحت لواء هذا الحزب أو ذاك سواء عبر البرلمان باعتباره جوهر كل وصول للسلطة التنفيذية،لأن جل الحكومات في الأنظمة الديمقراطية تتشكل من الأحزاب الفائزة ،أو أن يترشح عبر المجالس المحلية المنتخبة( ولائية أو بلدية).
و قد أبدى العديد من المثقفين تخوفهم من أن يشكل اندماج المثقف في الحياة السياسية بداية تدجين لدور المثقف.
و في اعتقادي انه للرد على مثل هذا التخوف أن دور المثقف لا يجب أن يقتصر على جانب النقد التنظيري،بل إن المثقف مدعو لأن يعيش الواقع و يتكيف مع مختلف الحقائق المحلية و الوطنية و الإقليمية و الدولية، و ان يكون له منظور شامل لمنظومة الحكم في بلاده بعيدا عن الشعبوية و عن الجانب النظري الغارق في الأحلام الوردية لنظام الحكم أو للجمهورية الباحثة على نظام (المدينة الفاضلة) بمنظور فلسفي غارق في الأحكام التنظيرية البعيدة عن الواقع المعاش.
المثقف من هذا المنظور يجب أن يضيف للجانب التظيري الجانب العملي المدعوم باكتساب ما يصطلح عليه بثقافة الدولة.
ان ثقافة الدولة ليس معناها صمت المسؤول المثقف عما يراه امامه من انحرافات و فساد في منظومة الحكم القائم، و ليس معناه التشهير ببعض السلوكات بشكل فوضوي شعبوي،بل إن ذلك يكمن في حكمة المثقف المسؤول على التصرف وفق القانون و محاولة التنبيه بطريقة حضارية داخل مؤسسات الحكم و نقد تلك السلوكات المشينة بما لا يحدث اهتزازا داخل منظومة الحكم.
و لذلك فالمناضل المثقف المسؤول مدعو أن يسهم في تثقيف السياسة و جعل الناس ينظرون للسياسة بمفهوم سليم بعد ان يحسوا ان هذا المثقف المسؤول أحدث تغييرا جذريا فعليا في منظور الناس للسياسة.
اما تسييس السياسة و تدجين المثقف و انغماسه في الملاذ و فساد الحكم بعيدا عن قضايا المواطن و مستقبل الوطن فهو ليس من شيم المثقفين المناضلين المتشبعين بأنبل القيم.
و قد سئل أحد المناضلين يوما : كيف استطعت أن تصمد أمام هؤلاء و أولئك سواء أصحاب المبادئ أو أصحاب المصالح و تقنعهم رغم محدودية مستواك ؟
فكان جوابه : ليس شرطا أن تكون عبقريا لتسيير الناس،ما يجب أن تفعله هو ان تكون مناضل قضية،فإن وجدت أمامك أناسا أصحاب مبادئ متشبعين بالقيم و مزودين بالمعارف و العلوم فتأكد أنك لن تخطئ،لأنك ان اخطات فتأكد ان هؤلاء سيقفون لك بالمرصاد و يقيمون أخطاءك و يصلحونها لفائدتك و مصلحة الوطن ،أما الانتهازيون الباحثون عن مصالحهم الشخصية فتأكد ان همهم الوحيد هو مصلحتهم الخالصة و اغراقك معهم دون أن تهمهم مصلحة الوطن.
لذلك عليك أن تتأكد من المحيط الذي يوجد حولك ،ابحث دوما عن المثقفين المتشبعين بأنبل القيم، فهم عينك التي تجعلك تدرك أخطاءك بسرعة ، و حاول أن تبتعد عن الانتهازيين الذين يصفقون لك اليوم حتى و لو أخطات، و لكنهم يتحولون إلى ناهشين للحمك إن هم شعروا ان مصالحهم الشخصية تتعارض مع منظورك الصحيح للتسيير.
ما أحوجنا اليوم وغدا إلى رجال يثقفون السياسة و يجعلون منها أداة للتغيير الديمقراطي الهادئ السلس بمنظور العصر و بما يخدم مصلحة الشعب و قضايا الوطن.