الهجرة النبوية.. شمس أشرقت على ربوع جديدة في شبه جزيرة العرب ليتوهج
منها بريق الدين الجديد والأمل في الحياة الكريمة، إنَّ في أخبار الهجرة وذكرياتها مِن الدّروس والعبَر ما لا يكاد يحِيط به الحصر أو يستوعِبه بَيان، وخليقٌ بنا أَن نأخذَ من ذكرياتِ الهجرةِ
وأحداثها المددَ والمَعينَ والزَّاد، فنختطَّ لأنفسنا مناهج سير ومعالمَ هداية لإعلاء كلمة الله تعالى في الحياة.
تضع السيرة بين أيدينا ومن خلال حادثة الهجرة النبوية عبرة للمعتبرين وذكرى للذاكرين ودروسا عبر الأزمان وتبين أن صعوبة الحياة مستمرة تتمثل تارة في الجهل والظلم والطغيان وتارة في الامتحان بالأمراض والجوائح التي أفنت ملايين البشر عبر التاريخ …وها هو الآن يحل علينا العام
الهجري الجديد والعالم يصارع ويجاهد جائحة من الجوائح الفتاكة بسرعتها وتنقلها لم يشهد مثلها العالم من قبل ….
ونحن المسلمون نعود إلى سيرة المصطفى صل الله عليه وسلم في دروس هجرته وكيف دافع عن دينه وكيف دفع طغيان المشركين بأسباب البشرية وكذا طلب العون من الله فكذلك نحن في صراعنا مع جائحة كورونا …
لأن الله تبارك وتعالى وَضَعَ للبشريّة على مَرّ التّاريخ نماذِجَ ومناهج بناء الوعي ومواجهة التحديات ، وهذه النماذج هم الأنبياء عليهم السلام، وقد أرشدنا ربنا سبحانه إلى الاقتداء بهم فقال: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” (الممتحنة :6)، وقال سبحانه: “أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ” (الأنعام: 90)، وقال سبحانه: “قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ” (الممتحنة:4
ولذلك كان فهم النبي صلى الله عليه وسلم لوحي الله تعالى وتمثله له ودعوته إليه وعمله من أجل تجسيده في واقع حياة اجتماعي وحضاري نموذجي، ومواجهته للتحديات التي تعيق ذلك مرجعا ومعيارًا للاقتداء والتأسي الموضوعي، ونحن نستفيدُ منه في جهاتٍ متعدّدة على رأسِها: تحقيق الفهم الأمثل للإسلام (وهذا التجديد في جانب الوعي والإدراك)، ومحاولة استثمار
السنن النبوية في علاج أمراض الجهل بالعقيدة والجهل بالوقاية وكيف نستثمر قراءتنا للهجرة النبوية ومقاربتها بالحجر الصحي في اللغة الحديثة وكيفية المحافظة على الكليات الخمس …
و في ضوء هذه الاستفادة يمكننا فهم السر في تحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للهجرة وفراق الأهل والمال والوطن لم تكنْ الهجرةُ النبوية إلى المدينة سياحةً ومتعة أو استكشافًا لعالمٍ جديد، فلقد كانتْ خياراً لا مفرّ منه، وحلًا أخيرًا بعد أنْ ضاقتْ بالمسلمينَ أرضُ مكةَ بما رحبت، وتغيرَعليهم الناس، لقد كانت الهجرة مغادرةً للأرض والأهل، ووشائج القربى،وصلات الصداقة والمودة، وأسباب الرزق، والتخلي عن جميع ذلك من أجل العقيدة والإسلام.
ومن أجل الأنفس والحفاظ على الحياة تساوي المحافظة على العقيدة ومن ثم أبتعدنا في هذا الوباء عن الأهل ووشائج القربى ، وصلاة الصداقة ، وأسباب الرزق في الوقاية من جائحة كورونا
وحتَّى نفهم الهجرة النبوية وأبعادَها في إطارها الصحيح علينا أن نرجع قليلًا إلى الوراء، لنتعرَّف على الطريق الذي هاجرَ عبرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: فكانت تكتيكا وتخطيطا والأخذ بالأسباب والنتائج، دارسين أحوالها وآثارها، ومتفهمين المكان والزمان والموارد، ومقارنين بين أحقاب زمنية لها ما لها وعليها ما عليها، ومدركين جيدا مفهوم التطور والعلم الحديث وما يؤول إليه ىلا شكّ بأن التخطيط بحد ذاته منهجا وأسلوب حياة نسير عليه في كلّ شؤوننا،بداية من التخطيط والخروج من جائحة كورونا ، على مستوى الفرد والأمة. فالتخطيط، كما نفهمه، وكما يعرّفه آباؤه وعلماؤه هو: ” توظيف كل الطاقات والإمكانات للوصول إلى أهداف محددة في زمن معين”، مستغلين الموارد المتاحة، والفرص السانحة، للوصول إلى الهدف المنشود، ورسم خارطة سيرٍ توضح أين نحن الآن وما نصبو إليه مستقبلاً.
وبالتفصيل والتحليل للتخطيط الاستراتيجي الذي استخدمه الرسول – صلى الله عليه وسلم- القائد القدوة، والرسول المعلّم، رجل المعجزات، وصاحب الإلهامات، نبيّ الرسالة البشرية المتكاملة حياتيّاً ودينيّاً، وتتبعاً لخطوات التخطيط الاستراتيجي خطوة خطوة، فإننا نجد ما يلي:
تحديد الأهداف
فقد قام الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم بالدراسة المُسبقة، والتحليل العميق، لتحديد الأهداف المرجوّ تحقيقها، آخذاً بالأسباب، محلّلا للواقع، متطلّعا للمستقبل، مفصّلا لجميع المناحي والأمور، غير لاهٍ عن أي هدف أو غاية، بدءاً من التحضير والإعداد والاختيار الأمثل للموارد – البشرية والمادية والمعنوية -، مروراً بغرس الثقة واليقين والظن الحسن بمعيّة
ونصر الله، وعلى غرار قاعدة ” اعقل وتوكّل” وبعيداً عن قضية التواكل أو الدعاء بغير الفعل والإرادة، وصولاً إلى إعداد وتهيئة البيئة المستقبِلةلتحقيق الأهداف وهي – المدينة المنورة- في موضوعنا، فقد أسس له فيها أمة تنصره بعد نصر الله، وتحميه وتقف معه، استقبلته بجيشه وموارده استقبال الفاتح والمخطط العبقريّ، وأعطته الفرصة الأكبر لتحقيق الأهداف المنشودة.
– ـتخصيص الموارد المتاحة
لا يخفى على أحد من المتعمقين في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم- والدارسين لسنته ووقائعه، مدى استغلال الرسول لجميع الموارد المتاحة له، سواء مادية أو بشرية أو معنوية، ولو جعلنا تركيزنا في هذه المقولة على استغلاله الأمثل للموارد البشرية وتخصيصه لكل شخص على حسب قاعدة ” الشخص المناسب في المكان المناسب”، وتحليله الصحيح لشخصيات من حوله، لوضعهم في المكان الذي يستطيعون به تنفيذ ما يُناط بهم، وتحقيق الأهداف المشتركة المبتغاة من هذه المشاركة، ولا سيّما إشراكه لشتى الأفراد مع اختلاف
الأعمار والأجناس، فلنا في ذلك أمثلة كثيرة:
• اختار – عليه الصلاة والسلام- “عبد الله بن أبي بكر”، ليتسمّع ويتنصّت على الأخبار ويأتيه بها، وفي ذلك توظيف لحنكة وحكمة الشباب و
• استفاد – صلى الله عليه وسلم- من مهنة الصحابة وسهولة تحركاتهم، فاختار الصحابي الراعي “عامر بن فهيرة” لمحيِ آثار المشاة للتغطية على الصحابة من باب السرية وأخذ الحيطة.
• لم يتغافل الرسول – صلى الله عليه وسلم- عن دور النساء، فكانت أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنها، من تؤمن وتنقل لهم الطعام والزاد.
• وكما أن الحكمة والحنكة مهمتان في أي تخطيط، لكنه – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- يدرك أهمية القوة الجسدية والشجاعة في تحقيق ونجاح ذلك، فقد اختار “علي بن أبي طالب” – رضي الله عنه- أن يبيت في فراشه بدلا منه،مراوغة وسرية، ولاستطاعة عليّ التصرّف في المواقف الطارئة.
• ومن الغريب، استعانة الرسول – صلى الله عليه وسلم- بـ “عبد الله بن أريقط الليثي” بشخص غير مسلم، لخبرته وأمانته ومعرفته بالطرق الغير معتادة.
إن التخطيط منهج وأسلوب حياة، طوبى لمن سار عليه واتبع أسسه، وويلات وفشل
لمن استغنى عنه في الدنيا والآخرة
وكما أن حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم، حياة شاملة ومتكاملة، على أسس صحيحة، ومبادئ واضحة، فكذلك كانت خطته – صلى الله عليه وسلم- على نسق أسس ومنهاج التخطيط السليم، فاتبع أسس التخطيط الناجح على النحو الآتي:
الواقعية و المرونة و الشمولية: و البساطة والوضوح:
الهجرة النبوية درسٌ في الصبر على البناء والتحضير والتدرج:
إن هذا العمل العظيم وما يترتب عليه من نقلة نوعيَّة في تاريخ الإسلام والمسلمين احتاجَ إلى الصبر والتدرج في البناء والإعداد، وعلينا أن نأخذ العبرة والدروس وإعادة قراءة السيرة النبوية وتوظيفها في حياتنا العملية الاجتماعية والاقتصادية والصحية
بقلم الأستاذ / قسول جلول
باحث وإمام بمسجد القدس حيدرة