بقلم : واسيني لعرج
هل هو عيد ميلاد بعد موت؟ أم تذكر لزميلة وصديقة غالية، كانت ممتلئة بالحياة والأحلام قبل أن يوقف الموت كل شيء؟ كلاهما معا. لأني مازلت مصرا أن الموت ينسحب في العمر، من المشهد، تاركا المساحة للحياة، الحياة وحدها. أهو الحظ الذي تخلف عن موعده، أم هي الأقدار التي كثيرا ما تكون قاسية. الستِ أنت قائلة هذا الكلام: تحاشَ القدر السيء، وعندما تشعر به يربت على كتفيك، ويناديك بصوت خافت، واصل لحظتك، وكأنه غير موجود. سينسحب من تلقاء نفسه. هذه المرة للأسف بقي واقفا طويلا حتى سحبك وراءك. لروحك الرحمة والسلام والخير الذي كنتِ عنوانه.
الدكتورة سليمة عذاوري (على الرغم من أنك تكرهين كلمة دكتورة التي لا تعني لك شيئا سوى كونها شهادة لا أكثر، ولم أرك يوما تقدمينها على اسمك. كنا نضحك من ذلك ونحن نستعيد كبار الأسماء: هل سمعت يوما يوما الدكتور رولان بارت؟ الدكتور أمبرتو إيكو، الدكتور جيرار جنيت، الدكتور جاك بيرك، الدكتور تودوروف… ونغرق في سخرية لاذعة).
ولدت سليمة في ضواحي العاصمة في 31 ديسمبر 1982، أكاديمية وباحثة. درست في الجامعة المركزية، قبل أن تستقر بجامعة بومرداسى (ضواحي العاصمة، قريبا من سكن أهلها).
في مثل هذا اليوم جئتِ إلى الدنيا.
في عمر الثلاثين وبضع سنوات، نحلم بالحياة وبالمزيد من جنون الحرية، لا نفكر في الموت إلا قليلا.
في عمر الثلاثين نشد على الحياة بأظافرنا وأسناننا ونرفض أن يسرقها الآخرون، كل الآخرين، منّا.
في عمر الثلاثين نحلم بالطيران بعيدا عن الأنظار، ونطير بالفعل متحررين من قيد الوكالات المفروضة زورا.
في عمر الثلاثين، نتكلم قليلا، ونفعل كثيرا ولا نحسب الخسارات إلا قليلا.
في عمر الثلاثين تتعطل كل الحواس إلا حاسة الحب والجمال والخير.
في عمر الثلاثين، نسجن الضوء في أكفنا، ونهرب به بعيدا عن الأنظار خوفا من أن تمتد نحوه الأنانيات القاتلة.
في عمر الثلاثين ننادي الغيمة ونطلب منها أن تنزل من سمائها قليلا، لترافقنا في أحلامنا. وإذا لم تفعل، نصعد نحوها بلا تردد.
في عمر الثلاثين، نرتكب الأخطاء لكننا نحفظ الدرس، ونقرأ الروايات ونشاهد الأفلام الرومانسية، ونحلم كما الأطفال ماذا لو كنا في مكان البطلة مثلا؟ في عمر الثلاثين نتلهف على كل ما يشعل رغبتنا في حب الحياة، ونسافر في أعماقها إذ لا توجد قوة في الدنيا تمنعنا من ذلك.
في عمر الثلاثين ليس للموت مكان في قاموس الحياة.
عرفت سليمة عذاوري شابة يافعة، ممتلئة بالحياة، في عز العمر، طالبة تحضر شهادة الليسانس. جرأتها العلمية لم يكن لها ما يماثلها. ويقينها كان أحيانا أكبر منها. أدهشني بحثها عن غسان كنفاني الذي مازلت احتفظ به غلى اليوم، ولابد أن ينشر يوما. كان تحليلها اوسع وأدق من سنها. فقد ذهبت إلى الإذاعة الفلسطينية، والسفارة، ومركز التوثيق الفلسطيني في الجزائر، وتلقت هناك كل المساعدة.
طلبة لا يمكن أن تمر دون التنبه لها، في مدرج الترجمة (أ) وسط أكثر من 500 طلبة وطالب، في محاضرات المنهجية أو الأدب الجزائري.
ذكاؤها الواسع، وعنادها، وإصرارها على رأيها الذي تدافع عنه باستماتة، جزء من بنية شخصيتها. أعتقد أن الزمن، بعد تخطي عتبات العشرين، علمها ما معنى نسبية المعرفة التي آمنت بها وناضلت من أجلها، إلى أصبحت ناقدة مميزة، من الرعيل الرعيل الجديد المشبع ثقافيا إذ كانت تتقن ثلاث لغات: العربية، والإنجليزية والفرنسية. فذهبت نحو جذور المعرفة لفهم آليات النقد الحديث.
إشرافي عليها في السنة التحضيرية للدراسات العليا، والماجستير، ثم الدكتوراه عمق خط السجالية بيننا، لدرجة أن أصبحتْ في سن مبكر، صوتا نقديا حقيقيا، بالخصوص في مرجعيات النقد العربي الجديد. لدرجة أن بحثها في الدكتوراه كان سجالا قويا وعنيفا أحيانا حول المعرفة النقدية. لقد اكتشتفت بجهدها القرائي وإصرارها المعرفي، كذبة النقد الجديد (في الكثير من جوانبه) الذي اعتمد على الآليات النقدية العامة دون المرجع الفلسفي والفكري. صرخت بياس أمام بعض لجنة المناقشة: كيف لناقد عربي معروف، على سبيل التمثيل فقط، لم يقرأ من كتاب الأطراس إلا ثلاثين صفحة؟ ولا يعرف شيئا عن امبراطورية العلامات ولا نظام الموضة، لبارث؟ ذهنه خال كليا من جوليا كريستيفا؟ لم يتعلم شيئا من صرخة تودوروف عن المخاطر المحدقة بالأدب؟ أثناء تحضيرها لبحثها الأكاديمي، خرجنا بفكرة خطيرة اشتركت معها فيها: الكثير من النقاد العرب الذين اشتغلوا على جنيت وعلى بارث وتودوروف وغيرهم، ورثوا لنا معارف مغلوطة كليا، سارت على هديها أجيال كثيرة، تحتاج اليوم إلى إعادة قراءة صارمة. كان هذا مشروعها الذي سرقه الموت منها، ومنا.
لكن الموت، سبقنا إليها.
يوم زرتها في بيتها العائلي، أول مرة، ثم بعدها في المستشفى، برفقة الدكتورة زينب التي درستها أيضا في الليسانس، شعرت بشيء مخيف يغرس مخالبه في جسدها الهش. ولأنها كانت مصرة على الحياة، فقد سافرت إلى تركيا (اسطنبول) في رحلة علاجية. شجاعتها كانت كبيرة في مواجهة موت خفي كان يتربص بها. وتأكد بشكل يقيني بأنها سنتنصر على المرض الخبيث. قلت لها جملة على التليفون، ما تزال حاضرة في أعماقي، سبق أن قلتها لنفسي يوم انتصرت على أزمتي الصحية: يؤمن بالموت من ينصاع له (دون كيخوتي دي لا مانشا) رأيت ابتسامتك ترتسم من وراء التليفون.
لكني فجعت وأنا في طنجة، متجها إلى القاهرة، عندما أخبرتني أختك بنهاية الرحلة المؤلمة. لم أجد ولا كلمة إلا تمتمة بسيطة لم تصل إلى أحد، ربما الله وحده من سمعها في شكل احتجاج: لماذا فعلتَ هذا يا الله؟ في الثلاثين من العمر لا حق للموت في أرواحنا وأجسادنا؟
اليوم وأنت تعودين إلى الحياة، بمناسبة عيد ميلادك، صممت في خلوتي البعيدة، أن أحتفي بك بطريقتي. أن أضع في كفك وردة بنفسجية برية تشبه أمي التي زرتِها يوم غادرتِ الحياة، قاطعة مئات الكيلومترات فقط لتقاسمينا دموعا وحزنا عميقا وأحلاما صغيرة لا يراها إلا من يحب الحياة، وتعودين في اليوم نفسه إلى العاصمة بعد أن قطعت رحلة 1400 كيلومتر ذهابا وإيابا. في ذلك اليوم تأكد لي بأن قلبك كان واسعا وكبيرا وصادقا.
وتأكد لي أيضا أن الحياة استحقاق وليست منة، لهذا نصر عليها ليكون لنا معنى داخل هذا العبور الحتمي الذي اسمه الموت.
شكرا سليمة على كل اللحظات السعيدة التي منحتها لي ولنا جميعا، أهلا، واساتذة وطلبة، بمحبتك العالية وقلبك الطيب الكبير.
“ناقشت سليمة عذاوري، الاستاذة بجامعة بومرداس، رسالة الدكتوراه صباح يوم الخميس، 23 أفريل 2015، في مكتبة جامعة الجزائر المركزية رسالة دكتوراه: النظريات النقدية الغربية وإشكالية التلقي العربي. وقد اشترك في المناقشة. الأستاذ واسيني الأعرج مشرفا. والأستاذ الدكتور سعيد سلام رئيسا. والدكتورة حياة أم السعد عضوا. والدكتور الزاوي العموري عضوا. والدكتور حفيظ ملواني عضورا. والدكتور لخضر قريشي عضورا. واستمرت المناقشة من التاسعة والنصف حتى الثانية والنصف (خمس ساعات). وبعد مناقشة علمية عالية القيمة وحادة أيضا، دافعت فيها الطالبة عن أطروحاتها، منحت لجنة المناقشة شهادة الدكتوراه بدرجة مشرف جدا مع تهنئة خاصة من اللجنة للطالبة، على جهدها النقدي الكبير والمميز. ألف مبروك للباحثة سليمة عذاوي التي شرفت الجامعة الجزائرية بعملها الأكاديمي هذا.
أغرق طلبتها وزميلاتها يومها قاعة مكتبة المعهد، بالورود.
قلتِ وأنت تعبرين عن سعادتك: حيث يوجد الورد، توجد الحياة. الدنيا ما تزال ببعض الخير.
الدنيا ما تزال ببعض الخير. مكانك ليس فارغا.