بقلم: ناصر جابي
أتصور وأنا أشارك منذ سنوات قليلة، في تنظيم ندوة فكرية، حول أوجه التشابه بين التجربتين السوفييتية والجزائرية، خلال مرحلة الانتقال السياسي والاقتصادي، أن يتغول رجال الأعمال في الجزائر بهذه السرعة، لا من الناحية الاقتصادية فقط، بل سياسيا كذلك، فقد تحول رجال الأعمال، خلال هذه الفترة القصيرة، من عمر الانفتاح الاقتصادي إلى فاعلين سياسيين، من الدرجة الأولى، على حساب الفاعلين التقليدين المعروفين داخل النظام السياسي الجزائري كالأجهزة الأمنية والجيش وبيروقراطية الدولة، وغيرهم من الفاعلين المؤسساتيين الذين انسحبوا للوراء، لصالح رجال الأعمال.
كل الدلائل تشير إلى أن رجال الأعمال قد تحولوا فعلا، إلى لاعبين سياسيين رئيسيين، هم الذين خرجوا من رحم النظام الاقتصادي الريعي، الذي ترعاه الدولة الوطنية، بعد تفعيل استفادتهم القصوى من هذا النظام كعلاقات اجتماعية وجهوية، ومصدر مالي وقرب من مراكز القرار. ناهيك عن المصاهرات وعلاقات القرابة والولاء، التي نسجتها هذه الأوليغارشية، في وقت قياسي، لكي تقدم نفسها كحاكم فعلي للجزائر، بعد أقل من ثلاثين سنة، من انطلاقها في تجربة اقتصاد السوق.
رجال الأعمال الذين يقترحون أنفسهم لحكم الجزائر، في وقت سادت فيه أفكار ليبرالية وحتى نيولبيرالية لدى الكثير من الجزائريين، بمن فيهم الأجيال الصغيرة في السن، التي وجدت حلا سحريا في الخصخصة واقتصاد السوق لكل مشاكل البلاد.
يتم هذا التحول الفكري والسياسي في الجزائر في وقت عرفت فيه الأفكار المنادية بالدور الاقتصادي للدولة، تقلصا واضحا، جراء ضعف اليسار، وكل العائلات السياسية التي مسها هذا الهوس الليبرالي، بما فيها التيارات الوطنية والدينية التي لم تعد قادرة على اقتراح بدائل سياسية واقتصادية، خارج منطق اقتصاد السوق والعولمة النيوليبرالية التي سيطرت كذلك على الجامعة ومراكز إنتاج الأفكار، على قلتها في الحالة الجزائرية. سيطرة رجال الأعمال اعتمدت على توليفة واسعة من الوسائل، التي بدأوا في امتلاكها، لدعم حضورهم السياسي الذي اقترب من نمط رأسمالية المحاسيب، كما عرفتها التجربة التونسية والمصرية، فلم يعد من الغريب في الجزائر أن يتدخل رجل الأعمال في الشأن السياسي والحزبي بمناسبة الانتخابات، بواسطة المال السياسي، لدى أغلبية الأحزاب السياسية الفاعلة. يضع القوائم الانتخابية ويمول الحملات ويشتري الذمم، بمناسبة الانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية. كما لم يعد غريبا أن يعين ابن القطاع الخاص، وزيرا على رأس قطاع، يمتلك فيه مصالح عائلية كبيرة، ينتقل بسهولة في تسييرها من الخاص إلى العام، والعودة مرة ثانية إلى الخاص، كما هو الحال في أعتى الاقتصاديات الليبرالية التي نعرفها. رجل الأعمال الذي أصبح لا يتورع عن التدخل الفج لدى أصحاب القرار الاقتصادي، حسبما تمليه مصالحه التي تنوعت، مع الوقت، فلم تعد تقتصر على قطاع واحد، ما يجعله ينظر صوب رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، بعد أن أصبح وزير قطاع واحد غير كاف، للتدخل لصالحه.
رجال الأعمال الذين طوروا وسائل التدخل والضغط على أصحاب القرار الاقتصادي والسياسي مع الوقت، بعد أن ملكوا الوسيلة الإعلامية الجديدة، كالتلفزيون والصحيفة اليومية، والموقع الإلكتروني، أذرع سياسية برهنت على قوة حضورها منذ انتخابات 2014 الرئاسية لصالح الرئيس الحالي. كما طوروا حضورهم على مستوى المجال الرياضي، بالسيطرة على رئاسة الفرق الرياضية الحاضرة شعبيا في المدن الكبرى (كرة القدم تحديدا بالشعبية التي تملكها). مدن تحولت إلى قاعدة كبيرة للحراك السياسي، يخشى أن يتحول صوب المعارضة، لو توفرت شروط محددة، يجب العمل على منعها، عن طريق، مخدر كرة القدم. «قاعدة شعبية»، يمكن أن يتم التفاوض باسمها سياسيا، عندما يحين وقت الحسم، على مستوى اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي، داخل نظام ريعي يتداخل فيه الاقتصادي بالسياسي بشكل كبير جدا. رغم كل هذا، ما زال رجل الأعمال الجزائري، يرفض أن يسمح لعماله بتكوين نقابة، للدفاع عن ظروف عملهم حتى وهم لا يقبضون أجورهم في وقتها القانوني، في نهاية كل شهر! فالساحة النقابية في الجزائر، تخبرنا أن فراغا نقابيا رهيبا يعيشه القطاع الخاص الذي يتواجد فيه أكثر من ستين في المئة من اليد العاملة الأجيرة في الجزائر، التي لا تتمتع في جزء مهم منها بأي حماية اجتماعية، أو ضمان صحي. قطاع ما زال في غالبيته يسير بطريقة عائلية مغلقة، ترى أن مسؤولياتها تتوقف عند باب المصنع الذي تسده حتى في وجه النقابة الرسمية التي دجنت قيادتها وحولتها إلى مدافع عن مصالحها. فرب العمل في القطاع الخاص لا يزال يرفض حتى الآن، القيام بدوره الاجتماعي في علاقته بالمجتمع، كما تفعل المؤسسة الاقتصادية الرأسمالية في العالم الصناعي المتقدم، وكما كانت تفعل تقليديا المؤسسة العمومية، مفضلا إنجاز أدوار خيرية ومناسباتية، هي أقرب لقيم المجتمع الريفي التقليدي، بكل حمولتها الأبوية التي عفا عليها الزمن.
عكس هذا الانعزال عن قضايا وهموم المجتمع، نلاحظ في المقابل ارتباطا كبيرا لرجل الاعمال بالسياسي والسياسة. علاقة تسهل لرجل الاعمال الجزائري المتعود على المنطق الريعي، الحصول على القروض والمشروع والحماية الجبائية في الوقت نفسه. بواسطة هذه العلاقة الريعية التي تجعله لا يفكر إطلاقا في التحرر من قبضة هذا النظام الذي قد لا يكون أصلا طالبا للفكاك من قبضته التي تعود عليها. حتى إن تعسف معه عندما يغضب عليه او يرفض تطبيق أوامره.
فالمطلوب من الدولة الريعية أن تستمر في تسييرها الحالي للشأن الاقتصادي، كما هو حاصل في القطاع العمومي، بكل عيوبه، حتى يسهل على هذه الاوليغارشية القيام بوظيفتها التاريخية، التي انطلقت فيها منذ سنوات: تحويل المال العام إلى مال خاص، بشكل قانوني أو شبه قانوني، في ظرف قصير ومن دون مواجهات كبيرة، في ظل اقتصاد ريعي نزواتي، لا يتحكم في مصدر موارده المالية التي يمكن أن تشح أو تتوقف فجأة، من دون سابق إنذار، نتيجة تقلبات سوق المحروقات الدولية. حالة تعكس أجواءها النفسية على مزاج هؤلاء الناهبين، الذين يجب عليهم التعود على العمل ضمن فراغ قانوني ومؤسساتي وعدم احترام أي ضوابط أخلاقية.
فالأوليغارشية التي تريد حكم الجزائري، ترفض التعدد السياسي والتنوع الفكري، كما ترفض تماما التنافس الاقتصادي الفعلي. فهي تريد عمالا، من دون نقابات واقتصاد سوق، من دون تنافس وديمقراطية، من دون انتخابات، وأحزابا من دون برامج ونخب منافسه. مثل نظامها الذي تربت في حضنه تماما.