بقلم : محمد أرزقي فراد
أفزعني هول “منطق المغالطة” باسم التاريخ، الذي ركبه متطرفون عطّلت “إيديولوجية سقيمة” عقولهم، وكانت سببا في تمزيق أوصال وطننا العربي من السودان إلى ليبيا ومن اليمن إلى سوريا. ومن سماتهم توظيف “المفاهيم” خارج سياقها التاريخي، كمفهومي “الخوارج” و “الشعوبية” مثلا. وها هو طيف من هذه الجماعة أصحاب العقول الفطيرة، يروّجون “بهتانا” خَطِرًا عن طريق توظيف مفهوم “زواف” خارج سياقه التاريخي، بأسلوب كاذب لا أساس له من الصحة، بنيّة تشويه سمعة كلّ ساكنة منطقة القبائل، بتهمة الخيانة والعمالة لفرنسا. ومن المؤكد أن سوء تصرف هؤلاء المتطرفين يزرع “الكراهية والبغضاء” بين جزائريين جمع شمْلَهم التاريخُ والجغرافية، ووحّدتهم الحضارة العربية الإسلامية التي ساهم الأمازيغ في صنع مآثرها وأمجادها. وما يدرون أن سوء صنيعهم هذا يهدد الجدار الوطني المرصوص، لأنه يصب في خدمة دعاة التمايز والانعزال في منطقة القبائل.
إن الحقيقة التاريخية التي لا تخفى على الباحثين الأكاديميين ولا يماري فيها أيّ عاقل، تؤكد أن الاستعمار الفرنسي قد التجأ إلى دعم قواته العسكرية، بتأسيس فرق محلية بسواعد المرتزقة في كلّ أرجاء الجزائر، لتيسير عملية الاحتلال. وفي هذا السياق أسست فرنسا في الجزائر الفرق التالية:
– فرقة زواف في منطقة القبائل(مشاة).
– فرقة مهاري في جنوب الجزائر(التنقل بالجمال).
– فرقة القومية في باقي مناطق الجزائر.
وفـي هــــذا السياق أنشأ الفرنسيون عند احتلالهم للجزائر في سنة 1830م فرقة ” ZOUAVEزواف” العسكرية على أنقاض فرقة “الزواوة” التي أنشأها إخواننا العثمانيون. وكانت تتشكل من المجندين المحليين ولباسهم مستوحى من اللباس الزواوي(القبائلي) المحلي، لكن بألوان العلم الفرنسي. إن ما تجدر الإشارة إليه أن هذه الفرقة العسكرية قد توقفت عن تجنيد أهل الزواوة بصفة نهائية سنة 1840م، وصارت تتشكل فقط من العنصر الأوروبي، مع احتفاظها بلباسها الزواوي. وقد خاضت هذه الفرقة عدة معارك خارج الجزائر في حروب دولية في أواخر القرن 19م ومطلع القرن20م بلباسها الزواوي الملوّن بالعلم الفرنسي. ثم لم تلبث هذه الفرقة أن تخلت عن لباسها الأصيل، وهكذا لم يبق من فرقة “زواف” عند اندلاع الثورة التحريرية إلاّ الاسم فقط .
لعل ما يقلق المواطن هو السؤال التالي: لماذا أخرج هؤلاء المتطرّفون فرقة “زواف” عن سياقها التاريخي عندما حاولوا إيهام الرأي العام – خلافا للحقيقة- أنها كانت أثناء ثورة أول نوفمبر 1954م تتشكل من ساكنة القبائل؟ وهل نفهم من ذلك أن وجود فرقة الڤومية وفرقة مهاري يبرر تعميم الخيانة على كلّ القطر الجزائري؟ إن أخطر ما في “منطق المغالطة” أن يصير “الأمر الشاذ” (وهو الخيانة في هذا السياق) قاعدة بدل من أن يحفظ. هل درى هؤلاء المتحذلقون أنهم بتصرفهم هذا “الخَبِل” يعمّمون تهمة التخوين على كل أرجاء الجزائر ويشتمون شهداءنا الأبرار الذين تجاوز عددهم خمسة ملايين شهيد؟
لقد أنجبت منطقة الزواوة(القبائل) – كغيرها من مناطق الجزائر- ثورات عديدة منذ نزول الفرنسيين في سيدي فرج سنة 1830، إلى غاية استرجاع الاستقلال سنة 1962م. وإنه لمن الجنون أن نختزلها في حالة “زواف” الشاذة، على حساب المقاومة الشعبية القوية والحركة الوطنية والحركة الإصلاحية التي أنجبت قادة وعلماء مصلحين كثيرين، كالحاج محمد بن زعموم، والصديق بن أعراب، وبوبغلة، والحاج أعمر، وفاطمة نسومر، والشيخ محمد أمزيان بن حداد، والحاج محمد المقراني، وأرزقي البشير، وبلقاسم راجف، وعيماش أعمر، وكريم بلقاسم، وحسين آيت أحمد، وعبان رمضان، وآيت حمودة عميروش، والفضيل الورتلاني، والسعيد صالحي، والسعيد البيباني، ويحي حمودي، وحسن حموتن، ومحمود بوزوز، وباعزيز بن عمر، وعلي أولخيار، والهادي الزروقي، وأرزقي الشرفاوي، والمولود الحافظي، والسعيد أبو يعلى الزواوي، والسعيد اليجري، والربيع بوشامة، ومبارك جلواح، وإسماعيل العربي، ورابح بونار، وحنفي بن عيسى، ويوسف اليعلاوي، ومحمد الطاهر فضلاء، ومحمد الحسن فضلاء، ومولود قاسم ناث بلقاسم، عبد الرحمان شيبان، ومحمد الصالح الصديــق، ويحي بوعزيز، والقائمة طويلة.
إن ما تحتاجه الجزائر هو “إقصاء الإقصاء”، وانتهاج حوار هادئ، غايته تحقيق المصالحة مع الذات، ومع ثقافتنا المتنوعة التي تضررت كثيرا بفعل التخندق الإيديولوجي المدمّر في غفلة من العقلاء والنخبة. وأزعم أخي القارئ أنني آليت على نفسي أن أخصص أعمالي الفكرية – بصفتي باحثا في التاريخ- من أجل رفع ظلم ذوي القربى على هذه المنطقة العزيزة، التي تعاني اليوم أيضا من ضربات دعاة التغريب والانعزال، وتاريخها يؤكد أنها لم تكن في ماضيها القريب والبعيد “جزيرة مجنونة تعادي المحيط الوطني”، بل كانت قلعة للحضارة العربية الإسلامية، أنجبت لها ألسنة وأقلاما سار بذكرها الركبان، دون أن تفرّط في المكوّن الثقافي الأمازيغي الذي لا يزال حيّا يرزق في المنطقة، وهو ما يكرّس سنة الله في خلقه المتمثلة في تنوع الألسن والثقافة والحضارة.
وأنصح من يريد معرفة تاريخ الزواوة معرفة علمية وموضوعية، أن يعود إلى ما كتبه المؤرخون والباحثون المتخصصون في مجال التاريخ. فأهل التخصص لا يرتكبون هذه الحماقات، ولا يلقون الكلام على عواهنه، بل يلتزمون أحيانا بقاعدة ” ليس كلّ ما يعرف يقال” إن اقتضت المصالح العامة ذلك.
ومن جهتي فقد نشرت عددا من الكتب حول تاريخ المنطقة أذكر منها:
– المجتمع الزواوي في ظل العرف والثقافة الإسلامية( منشورات الحبر).
– زواوة من خلال نصوص الحركة الإصلاحية 1925- 1956 ( دار الأمة).
– الأمازيغية وسؤال الانتماء (دار هومة للنشر).
– إطلالة على منطقة القبائل ( دار الأمل).
وآخر دعوانا أن: اللهمّ أرِنا الحق حقا وارزقنا إتباعه، وأرِنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. آمين.