ينبغي أن نُهيِّئ أنفسنا في السنوات القادمة إلى تبدلات متسارعة في أكثر من مجال إذا أردنا البقاء ضمن هذا العالم وتفادي الاندثار. يُخطِئ من يعتقد أن السياسة ستبقى هي السياسة والاقتصاد هو الاقتصاد والصحة هي الصحة والتعليم هو التعليم… كل شيء سيتبدل بسرعة فائقة في اتجاهات جديدة ينبغي رصد مؤشراتها من الآن بما في ذلك الفيروسات والبكتيريا والجراثيم الأخطر والأكثر فتكا من “كورونا”….
في ظل وجودها سيُصبح الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان بالمقاييس الغربية المتعارف عليها اليوم من الماضي، ذلك أن نمطا جديدا من الحكم سيفرض نفسه باعتباره الأقدر على مواجهة الأزمات وحماية البشر. وسيكون هذا النمط في أغلب الاحتمالات مستلهما من تجارب الدول التي تمكنت أو ستتمكن من مواجهة الأوبئة والأزمات الجديدة، حيث الدولة استعادت دورها، والسلطة المركزية أصبحت هي من تقرر وتتحكم فيما ينبغي أن يكون للناس من حقوق وما لا ينبغي.
كما سيُصبح الحديث عن الحرية الاقتصادية وعولمة السلع والخدمات من الماضي أيضا، ذلك أن قوانين جديدة ستَحْكُم الاقتصاد العالمي، وقِوى غير الاحتكارات التقليدية ستَتَحكَّم فيه، ولن تستطيع القوى الصغرى التي لم تُحسِن التكيف سوى الانصياع، والاكتفاء بالدور الذي ستكلَّفُ به من قبل الأكثر قدرة على الاستمرار.
وكذلك التعليم والصحة والحياة الاجتماعية والثقافية برمتها ستعرف تغييرات جوهرية مختلفة كل الاختلاف عما تعتقد بعض القوى السياسية اليوم أنه سيكون من أهدافها المستقبلية، باعتبار أن المستقبل القادم لن يكون أبدا صورة لما كان عليه ماضي الآخرين الأكثر تقدما وتنظيما وقوة، أي القِوى الغربية المعاصرة…
لن يتكرر النموذج الغربي ثانية.
أي أننا سنجد أنفسنا مضطرين لدخول عالم الموجة الخامسة الذي توقعه كثير من علماء الاستشراف والدين وكُتُاب الخيال العلمي، حيث ستتبدل طبيعة الدولة والسلطة والمجتمع وأدوات الصراع والتعاون زمني الحرب والسلم.
كيف سيكون موقعنا ضمن هذا العالم الخامس، ونحن مازلنا نُراوح مكاننا عاجزين حتى عن إدارة الدولة بأساليب عصر ما قبل الموجة الثانية؟ كيف سيكون حالنا وحال الشعوب العربية والإفريقية والمسلمة عامة، تلك التي مازالت لوحدها تتطلع لديمقراطية أمريكية أو فرنسية تحتضر وتعتبرها هي المستقبل المأمول!؟
إنها بالفعل إشكاليات حقيقية وليست وهمية ينتظرنا التعامل معها بجدية إذا أردنا تجنب الاندثار، وبأسوأ طريقةْ في العقود القادمة…
إننا في حاجة إلى إطلاق تفكير جماعي مُعمَّق للإجابة عن أسئلة تتعلق بطبيعة الدولة والسلطة وحقوق الإنسان وأساليب الدفاع عن النفس وأشكال الحروب القادمة ووسائل التكيف والاستمرار في الوجود في جميع المجالات…
إنها ليست مزحة، ولا انغماسا في الخيال، أو هروبا من الواقع، أو تنصلا من المسؤولية، بل حقيقة جادة حقيقة “كوفيد 19”.. وحقيقة الفيروسات والجراثيم والبكتيريا التي ستظهر بعده في السنوات القادمة، والتي لن تكتفي بحجرنا في البيوت، بل بحجر الماء والهواء عنّا… حتى نقول ما ألطفَكَ يا “كورونا.”…
*أكاديمي وباحث ، أستاذ التعليم العالي، عضوالهيئة الاستشارية لجمعية العلماء