المُثقَّفون هم نجوم الأمة، ينيرون لها أزمنتها، ومختلف جوانب حياتها، بل يُشعِلون لها القناديل، حين يَدْلهِمُّ ليلها، فيُضيئون لها الطريق نحو الأفق الأرحب، والأمة المنيعة هي تلك التي تُقدِّم مُثقَّفيها على مَن عداهم، وترفعهم إلى علٍ قدْر شموخهم، وتحميهم من أيِّ إغراءٍ يُرسله لصوص الكفاءات، ومن أيِّ اختطاف يستهدف العقل الحيّ فيها، فهم أدِلاّؤها الصُّدقاء، الذين لا تُخطئ بهم السُّبل، وكلما أهملتهم أمة، كلما انحرف بها السير، وأخذها إلى وحْل التّخلّف، الذي يبدو أننا غارقون فيه، ونحن- للأسف- شهود على إطفاء بعض نجومنا، قبل أن يكتمل توهّجها، إما بتهميشهم وإقصائهم، وحشْرِهم في زوايا المجتمع الحادة، داخل الوطن المفتوح على كل أنواع الغلق، وإما باغتيال أحلامهم حتى يُرْغَموا على الهجرة، فيُضيئوا فضاء الآخرين وسماواتهم، ويظل كثير منهم، يحمل الوطن ألمًا في قلبه يعصره كل حين، وقد لا يعودون إلا وهم محمولون في صناديق مُحكَمة الإغلاق، لتضمهم الأرض التي لا تعرف التّنكّر لأبنائها، كما يتنكّر لهم الساسة الحكام، وكلما رحل عنا مُثقَّف، كلما ماتت خلية من خلايا الأمة الحية، والمُثقَّف الموسوعي الذي فقدناه خلال الأسبوع الماضي، الإعلامي الشاعر الباحث، عياش يحياوي، واحد من الذين ضاقت بهم الجزائر على رحابتها، بالرغم من أنه كان لا يُفرِّق بين ذاته والوطن “أنا الوطن أنا الذات” .
رأى الشاعر في الثانية والعشرين من عمره، ما لم يره غيره ممن كانوا حوله، من رِدَّةٍ وخروجٍ عن خطِّ الشهداء، فلم يجد غير الجهر بالحالة الشاذة، ويُشهِر سلاح القصيدة، من خلال “رسالة عتاب” :
يا بلادي ضفائر القيد ليل * بربريٌّ تُدنِّس فيه الذئاب
والسياسات موكب أوكعي * لا عيون له ولا أهداب
يذبح الفجر حناياه والتار * ريخ أشلاء مزّقتها الكلاب
ولما لم يجد أُذْنًا في وطنه تصغي إليه، شدّ الرحال مُكرَهاً إلى أرض الله الواسعة، وهنالك في تلك البلاد البعيدة، وضع بذوره الثقافية، التي لم يمض وقت حتى أينع زرعه، وراح يُؤتي أكله طيبا مباركا، فأصبح في بضع سنين، كبير الباحثين في دائرة الثقافة والسياحة بأبو ظبي، ولأن الوفاء من شيّمه فقد أنتج للبلد الذي آواه وبجّله، كتابا حول “الإمارات العربية المتّحدة” نال به أحسن جائزة للدولة، وذلك لثلاث سنواتٍ متتاليات، كم كنت أتمنّى أن يكون الكتاب حول “الجزائر القارة”.
عياش الذي كان أحد أزهار جيلي العطِرة، لم يقطع حبله ألصري بالوطن، كما فعل بعض الناقمين، الهاربين من سياسة حكامه الطاردة، بل ظل يُقوِّيه بالزيارات الدورية، التي لم تكن فقط لتفقّد الأم مباركة، والأبناء والإخوة والمرابع، والبحث عن مكانٍ مفقود للوالد الشهيد محمد، الذي لا يُعرَف له قبر، بل ليترك بصمة تدل على أن هناك مثقفا جزائريا، خسره الوطن وأضاعته الأمة، بعدما أدارت له سياسة بلاده ظهر المِجَن كما يقال، ولكنه ظل ملتحما بالوطن مُحبًّا لأهله، فأنشأ في مرة جائزة “لقبش” للشعر، وفي أخرى، أعلن عن إنشاء مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم للبنين والبنات، بماله وعلى أرض أجداده، وفي ثالثة، أوقف نصيبا من ماله الخاص، مساهمة منه في إنجاز متحفٍ ثقافيّ، بمسقط رأسه في عين الخضراء، حيث تحلو له الحياة أكثر، رفقة الأهل والعشيرة، غير أن القدر كان له رأي آخر، فأخرج له الموت فجأة وهو في سنِّ الثالثة والستين، ليُنهي مسيرة إنسان، فقده أكثر من زمانٍ وأكثر من مكان، ونُكِبت الأُسَر التي كان قائما على شئونها، في غزة والصومال والجزائر، كما تيتّمت عنزتاه ودجاجاته، ولكن مسيرته لن تنتهي بموته، لأن الكبار يحيون مرتيْن: مرة حينما تقذف بهم أرحام أمهاتهم، خارج بطونهن، ومرة حين يتركون عالمنا الفاني ويرحلون، وقد انطفأت شمعة عياش ذات إثنين، وهو الذي كان قبل ذلك بساعات فقط، يطلب من أصدقائه وأحبائه أن يدعو له بالشفاء، بعد تجاوز العملية الجراحية التي أجراها، ليكون يوم الجمعة يومًا مشهودا في مدينته الصغيرة، التي ضاقت بالوافدين إليها لحضور جنازته .
لم تكن المسافة بين مدينة الجزائر وعين الخضراء، تتجاوز الثلاثمائة كيلو متر، ومع ذلك فقد استغرقت رحلتنا، أكثر من ستِّ ساعات، كانت ستكون تعبا مُضاعَفا، لولا الرفقة الطيبة مع الصحافي والأديب الكبير محمد الصالح حرزالله، وأخيه اللطيف الودود عبد الرؤوف، الصحافي المُميَّز بقناة العربية، ومدير مكتبها في الجزائر، فالطريق أصبح في كل الاتجاهات فخًّا منصوبا للسائقين، من خلال آلاف الحواجز الإسمنتية المتقاربة من بعضها، والتي يُسميها أصحابها عبثا مُمهِّلات، وما تكاد تتخلص من حاجز حتى تهوي بك السيارة في حفرة من الحفر، الذي يبدو أنها أصبحت شيئا مألوفا للمسئولين، الذين لم يجدوا سوى تزيين مدنهم البائسة، بتلك الحواجز القاتلة والمسيئة للوطن، لأن أغلبيتها لا يخضع لأيِّ معيار من معايير السلامة، إنما هي انعكاس للانسداد، الذي يُعشِّش في العقول “الحابسة” لواضعيها، كانت سيارة الباسات passat القوية الفاخرة، التي يقودها صاحبها الشاب المتمرِّس عبد الرؤوف، تلتهم الأرض التهاما، كلما ابتعدنا عن المدن القديمة المعطوبة، حمدنا الله أننا وصلنا قبل أن يُنهي إمام المسجد خطبته الأولى، وصلينا صلاة الجنازة في مقبرة الشجرات، مع الجموع الغفيرة على روح عياش، الذي فقدته دولة الإمارات، التي رفعته وسمت به فأعطاها كثيرا مما أبدع، كما فقدته الجزائر أكثر، وهو الذي كان يحترق فيها ليضيء، وأبى السفهاء إلا أن يحجزوا نوره ويُطفئوه، ولكن نجمه سيظل ساطعا- رغما عنهم- في سماء الشعر والأدب في الجزائر، وفي الثقافة العربية بصفةٍ عامة، وسيبقى كما قال هو في إحدى روائعه:
رأيته مهاجرا في أبد الزمن*يحمل للجزائر الأضواء والمنن
كثيرة همومه كأنه إله *النور في جبهته والمجد في هواه.