أكدت الروائية المغربية الزهراء رميج بأن الكتابة افراز ابداعي يسمح بالتخلص من مشاعر ومكبوتات و التحرر منها بعيدا عن السعي وراء الماديات ،كون ان الابداع اذا سقط من الكتابة جعلها هيكلا بلا روح.
5 ـ وأنت تكتبين النص الأدبي هل تراعين هذه الثلاثية: الإنتاج، التسويق، الاستهلاك ، أم تغضين الطرف عن العنصر الأول وتهتمين بالعنصر الأخير؟ أم أن الإبداع يأخذ مجراه الطبيعي ليحقق لك متعة التلذذ والتنفس بالكتابة، فتستمتعين بإفرازاتك الإبداعية وتنتشين بها ، وليكن بعد ما يكون؟
جميل استعمالك عبارة (إفرازات إبداعية). الإبداع فعلا إفراز لما في دواخل المبدع من أفكار وأحاسيس ومشاعر قد ينهكه أحيانا بقاؤها بداخله، فيسعى للتخلص منها والتحرر من أعبائها بواسطة الكتابة. شخصيا، لا أكتب بناء على رغبة في الإنتاج أو التسويق أو ما إلى ذلك، وإنما أكتب عندما أمتلئ بالموضوع الذي يظل يموج بداخلي إلى أن يختمر، فيطفو على السطح، كسجين خلت زنزانته من الأوكسجين، فراح يطرق على بابها بقوة ليخرج إلى عالم النور والهواء. وقد عبرت عن الكتابة في إحدى شهاداتي، بكونها تشبه عملية سلخ الثعبان لجلده. فالمبدع عندما يكتب يكون كمن يسلخ جلده القديم ليكتسي جلدا جديدا، وهي عملية تتكرر باستمرار طالما ظل مسكونا بالكتابة . عندما أكتب لا أفكر في شيء آخر غير النص الذي أمامي والشخصيات التي تتوالد ، والأحداث التي تتسارع . في رواية ( الناجون ) عشت تجربة فريدة ورائعة أثناء الكتابة . عشت تلك الحالة التي تحدث عنها الشعراء قديما ، إذ تخيلوا أنهم مسكونون بجن الشعر الذي يلهمهم ما يكتبونه . كانت الرواية كما لو أنها مكتوبة سلفا، وأني لا أفعل شيئا سوى تدوين ما يملى علي. ولذلك، كنت أستيقظ كل صباح، وأنا متشوقة لمعرفة مجريات الأحداث وسلوك وردود أفعال الشخصيات ، وأشعر فعلا بالمتعة بل وبالدهشة أحيانا ، وأنا أنصت إلى حواراتها، وأرى تصرفاتها. فهل يمكن لمن يستمتع ، ويندهش ، ويحلق عاليا في عالم الإبداع أن يفكر في تلك الماديات ؟ وهل يجتمع النقيضان – السامي والمادي- في اللحظة ذاتها ؟ إذا سقط الإبداع في التفكير في الحسابات التجارية فقد نسغ الحياة ، وأصبح مجرد هيكل بلا روح .
6 ـ التسويق يفرض على العمل الأدبي أو على منتجه شيئين : 1- نوعية القارئ 2- نوعية المنتوج. فأيهما تختارين؟ ولماذا ؟
أشرت سابقا ، إلى أني أكتب انطلاقا من إحساسي بالمسؤولية تجاه واقعي ومجتمعي ، ولا أكتب إلا عن القضايا التي تثير عندي أسئلة حارقة. لذلك، لا أهتم بالتسويق وتبعاته ، ولا أهتم بنوعية القارئ ، ولا بنوعية المنتوج . فالكتابة ليست تجارة تفرض دراسة السوق وذوق المستهلك . الكتابة مسؤولية تكتسي الطابع النضالي. والمناضل الحقيقي لا يفكر في الربح الذي سيجنيه من نضاله . فقد قدم الكثير من الكتاب المناضلين حياتهم فداء للقضايا التي آمنوا بها ، ولم يفكروا قط وهم يكتبون في مثل هذه المسائل . لم أكتب يوما ، إرضاء للسوق أو للذوق العام . وقد رفضت الكتابة عن الجنس والجسد التي يتوسل بها العديد من الكتاب اليوم طلبا للشهرة وللتسويق الواسع . ورفضت العناوين وحتى الأغلفة التي تحيل على ذلك والتي يعتبرها الناشرون وسيلة استقطاب لشريحة واسعة من القراء . لقد أصدرت حتى الآن اثني عشر عملا إبداعيا ولن يجد القارئ في عناوينها أي إشارة إلى ما يثير الغرائز والشهوات … لا أراهن على الإثارة ، وإنما على القضايا المطروحة ، والطرق الجمالية التي أتناولها بها .
7 ـ حتما، نوعية المنتوج الجيد تتطلب قارئا منتجا أي قارئا نوعيا، وإذا كان كذلك فمساحة المقروئية تكون محصورة ، وإن جنحت إلى القارئ السلبي فمساحة التسوق تزداد على حساب مساحة أرضية القارئ المنتج ، وهذا الذي يعبر عنه بـ : التسويق يعمي الإنتاج مثل العملة الرديئة التي تطرد العملة الجيدة من السوق ؟ أين أنت في هذه الدائرة التواصلية الانفصالية ؟
يمكن اعتبار تجربتي الإبداعية مختلفة نوعا ما، عما أشرت إليه . وأنها حققت نسبيا ، المعادلة الصعبة التي تجمع بين الإبداع الجاد والمقروئية الواسعة والتلقي النقدي الأكاديمي الوازن . فرغم كون رواياتي ذات بعد ثقافي كرواية (عزوزة) التي تمتح من الموروث الثقافي الشعبي، ورواية ( الغول الذي يلتهم نفسه ) النخبوية التي اتخذت من الكتابة الروائية موضوعا لها، وذات بعد سياسي وتاريخي مثل روايتي (أخاديد الأسوار) و( الناجون ) ، إلا أنها حظيت – وما تزال – باهتمام النقاد المغاربة والعرب. فقد اهتم هؤلاء منذ البداية ، بتجربتي الروائية ، وأنجزت حولها عشرات الدراسات النقدية ، وخصصت لكل من روايات (أخاديد الأسوار) و(عزوزة) و(الناجون ) كتبا نقدية تتمثل في كتاب : (( ضد الصمت والنسيان/ قراءات في رواية «أخاديد الأسوار»)) للدكتور إدريس الخضراوي ، وكتاب : ((اقتصاد النسيان في رواية «عزوزة»)) للدكتور عثماني الميلود، وكتاب : (( السرد وتمثيل الذاكرة التاريخية/ قراءات في رواية «الناجون» )) للدكتور أحمد الجرطي . كما حظيت تجربتي الروائية باهتمام أكبر على مستوى الجامعة المغربية ، وأنجزت حولها العديد من الأبحاث والأطروحات ، وهذا الاهتمام يتزايد باستمرار. وقد أسعدني في الآونة الأخيرة، اهتمام الطلبة الباحثين في الجزائر الشقيقة بتجربتي الروائية، وتواصلهم معي، وفوجئت بالاهتمام الكبير الذي تحظى به رواية ( أخاديد الأسوار ) على وجه الخصوص . ولا أنسى أنك أستاذي الفاضل ، من النقاد العرب الذين احتفوا بتجربتي، وساهموا بشكل كبير في تقريبها من المتلقي الجزائري وخاصة على مستوى الجامعة ، كما لا أنسى أنك تشرف على رسالة دكتوراه متخصصة في تجربتي الروائية وحدها. فرغم أن العديد من أطروحات الدكتوراه في المغرب تناولت رواياتي ضمن المتون التي اشتغلت عليها، إلا أن الأطروحة التي تشرف عليها تعتبر أول أطروحة اقتصرت على تجربتي الروائية وحدها ، وأنا فخورة ومعتزة بهذا التشريف الذي حظيت به تجربتي الروائية في الجزائر الشقيقة .
ما يسعدني أن أعمالي الروائية تشق طريقها بنفسها دونما حاجة مني إلى أساليب الترويج والإشهار التجاري ، ودون أي محاولة مني لمغازلة القارئ وإثارة غرائزه، أو للتنازل عن قيمي إرضاء للذوق العام . عندما أكتب لا أفكر إلا فيما يرضي ذوقي الفني وقناعاتي الفكرية ، ولا أكيف أبدا ، كتابتي مع متطلبات التسويق والتلقي.
8 ـ تجربتك النضالية أيام الدراسة وما بعدها، جلية جدا في أعمالك الروائية خصوصا (أخاديد الأسوار) و(الناجون). ترى، فيم أفادتك في عالمي الكتابة والسرد ؟
أفادتني هذه التجربة كثيرا في حياتي قبل الكتابة، ومن ثم، وجدتها تنعكس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على كتاباتي . أعتبر أن المرحلة الطلابية وما عرفته سبعينيات القرن الماضي من زخم نضالي على الصعيد المغربي خصوصا، والعربي والعالمي عموما، ساهمت في تكوين شخصيتي ، ورفعت درجة وعيي السياسي، وعمقت إيماني بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة وبضرورة التغيير من أجل واقع أفضل ووطن يتسع لكل أبنائه دون تمييز طبقي أو جهوي أو عرقي. هذه القيم والمبادئ السامية التي اكتسبتها من تجربتي النضالية هي التي تنعكس دوما على كتابتي، وتجعلني أنحاز للمهمشين والمقهورين ، وأن أكون صوت من لا صوت له، صوت من يعمل ويناضل في صمت ولا ينتظر جزاء من أحد. ففي (أخاديد الأسوار) سعيت للتعبير عن العديد من المعتقلين الذين ضحوا بأرواحهم أو بأحلامهم وعانوا من آلام جسدية ونفسية لا تطاق ، دون أن يكشفوا للعالم معاناتهم أو يتقدموا بطلبات التعويض عن نضالهم وما عانوا جراءه ، ودون أن يسعوا إلى الحصول على مناصب تعوضهم ما فات كما فعل كثيرون غيرهم . كما أنها شكلت مادة خصبة في كتابة رواية (لناجون) التي تناولت فيها تلك المرحلة بمنظار نقدي ، وارتقيت بها إلى مستوى التخيل الأدبي ، بعدما كان تناولها محصورا في الشهادات الواقعية التي قدمها المعتقلون على وجه الخصوص حول ما عانوه من تعذيب في المعتقلات السرية . وهذه التجربة هي التي تضفي المصداقية على هذه الأعمال ، وتعبد لها الطريق نحو القارئ .
9 ـ اللافت في رواية ( الناجون ) وجود صراع بين الأيديولوجي والموروث الثقافي بمفهومه الواسع (العادات، التقاليد، العرف، الدين والأخلاق)، كيف استطعت التخلص منهما ، وانتصرت للكتابة والإبداع؟
الصراع بين الإيديولوجي والموروث الثقافي كان جوهر الثورة التي آمن بها جيل السبعينيات . فقد كان جيلا متمردا على العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي كان ينظر إليها على أنها تشكل العائق الأكبر لتحرر المجتمع وتطوره . وكان يسعى إلى التغيير الجذري ، ويؤمن بالهدم من أجل البناء.
هذا الصراع كشفت عنه في رواية ( الناجون ) دون أن أسقط لا في صرامة الإيديولوجيا والدعاية لها ، ولا تقديس الأخلاق . فالإيديولوجيا والأخلاق يقتلان معا جوهر الإبداع الذي لا يزهر إلا في أحضان الحرية . ولأني دوما انحاز للإبداع الحر، فقد أطلقت العنان للشخصيات لتعبر عن نفسها دون رادع أخلاقي أو إيديولوجي.
10 ـ رواية (الناجون) كسرت العديد من الطابوهات المستورة الموجودة بين المنتمين مثل : التخلص من الانتماء واعتناق مذهب جديد مناقض للأول، اتقدت الرجولة وصاحت الأنوثة وبرزت ثقافة القبيلة على حساب الأفكار والفلسفات التي كثيرا ما تغنى بها الرفقاء أيام المد الثوري الاشتراكي ، وسقطت الأقنعة وكان الطلاق بين الرفقاء والرفيقات . إلام يعود هذا كله ؟
مع مرور الزمن وبُعد المسافة بين الحاضر والماضي النضالي ، تجلت أمور عديدة، وسقطت أقنعة كثيرة ، وأصبحت الصورة أكثر وضوحا الشيء الذي جعلني قادرة نوعا ما ، على النظر إلى المرحلة النضالية بواقعية ، وعلى فهم طبيعة المناضلين الذين ساهموا في المد الثوري الاشتراكي . وبدا لي أن طبيعة المناضلين لم تكن واحدة. فمنهم من آمن إيمانا قويا بالمبادئ الاشتراكية ، وكان مقتنعا بضرورة التغيير من أجل واقع أفضل، وواعيا بالتضحيات التي يتطلبها النضال من أجل التغيير، ومستعدا لتقديم تلك التضحيات فداء للحلم الأكبر. ومنهم من جرفته (موضة) النضال والفكر اليساري ، وأغرته صورة المناضل اليساري باعتبارها رمزا للتحرر والتمرد على التقاليد والأعراف . فكان انتماؤه إلى اليسار من باب الاندفاع الشبابي، وليس بناء على قناعة راسخة بالفكر الاشتراكي ومبادئه الجوهرية.
هذان النوعان من الشخصيات هما اللذان تناولتهما في روايتي (الناجون) التي احتفيت فيها بالنوع الأول ، أي بالمناضلين الصادقين المؤمنين بالتغيير . فهؤلاء ضحوا دون أن يطلبوا مقابلا لتضحياتهم فيما بعد ، ودون أن يتصالحوا مع السلطة أو يسعوا للحصول على مناصب كتعويض لنضالهم . ومنهم من لم يشهر نضاله قط . ولأنهم حالمون صادقون ، فقد ظلوا متشبثين بحلمهم في سبيل أن يروا الديمقراطية الحقيقية تعم وطنهم . وهذا ما جعلهم يظلون متشبثين بمبادئهم، ويستمرون في النضال على كل المستويات ، كل في مجاله وحسب تخصصه . أسميتهم بالناجين لأنهم نجوا من نيران تلك المرحلة ، وظلوا على قيد الحياة رغم المعاناة النفسية والجسدية، كما نجوا من التيار الذي جرف الكثيرين ، فلم يتهافتوا على فتات السلطة، ولم يركعوا من أجل المناصب كما فعل النوع الثاني من المناضلين الذين بلغ الأمر ببعضهم أن برروا القمع الشرس الذي عرفته تلك المرحلة بإدانتهم للعمل النضالي، ونعت أنفسهم آنذاك، بالمتهورين غير المدركين لخصوصيات الواقع المغربي . وهؤلاء ما داموا قد غيروا مبادئهم وأفكارهم ، فليس غريبا عنهم أن يغيروا رفيقاتهم . لقد هالني فيما بعد تلك التجربة النضالية ، تخلي الكثير من الرفاق عن رفيقاتهم ، وزواجهم بطرق تقليدية، وهم الذين كانوا يدعون الإيمان بحرية المرأة ومساواتها مع الرجل ودورها في تربية جيل جديد على القيم التي يؤمنون بها . لهذا طرحت هذا الموضوع بقوة في رواية (الناجون). أما المناضلون الحقيقيون ، فقد ظلت حياتهم منسجمة مع أفكارهم، وظلوا أوفياء لرفيقاتهم كما لمبادئهم .