د. آمنة بلعلى

تقوم فلسفة الكاتب على رؤية هي بمثابة الموقف الإيديولوجي والفكري الذي يوجّهه، فهي موقف الإنسان الفكري والوجداني من الحياة، يتجسد سياسيا وثقافيا ويجعل أعمال كاتب معيّن مشروعا وليس مجرد تسويد الورق
والرؤية لدى الحبيب السايح كما استخلصتها من كتاباته، يؤطّرها موجّهان أساسيان، الأول: هو الماضي المتمثل في المرجعية الثورية والتي قامت على طابع اجتماعي اشتراكي، والثاني: يتمثل في حلم المشروع المجتمعي التحديثي للدولة الوطنية بعد الاستقلال.
هذان الموطّران كانا بالنسبة للحبيب السايح بمثابة المحرك الدينامي الذي وجّه فلسفة الكتابة لديه، ووسم مشروعه الروائي بغرضين اثنين، هما: الخيبة و المواجهة، وعنهما انجرّت مجموعة من الأسئلة التي تشخّص رؤيته، أهمها أربعة ، وهي سؤال المحلية، وسؤال التاريخ ، سؤال القيم، وسؤال اللغة.
1-سؤال المحلية، النص الأدبي حالة تاريخية مرتبطة بالتحولات السوسيوثقافية التي ينتج فيها، والحبيب السايح جعل كل رهاناته تمرّ عبر وعي الذات المحلي، فرواياته تعبّر عن حالة الذات الجزائرية وهي تؤسّس لرهاناتها الخاصة، في محاولتها لأن تصبح هي منتجة القيم، وتفكّر بعيدا عن قيم تفرض من خارج. إنها رواية تحترم منطق شرطها الأساس في علاقتها بالواقع، انطلاقا من منطق الرؤية الذي أشرنا إليه سالفا، ولذلك، ليس غريبا أن نجد نسقا خفيا هو ذلك النسغ الواقعي الاجتماعي، الذي بدأ مع زمن النمرود وهي تشخص انهيار الحلم والخيبة في تجسيد قيم المشروع المجتمعي التحديثي وانتهى في آخر رواية مع مقتل أسعد المروري وتغييب حقيقة قتله كما تمّ قتل أي أمل في المشروع التحديثي.
بعد العشرية السوداء، وفي الوقت الذي عمد فيه بعض الروائيين إلى تنشيط المنظومة التمثيلية الغربية، لاعتقاد بتجاوز المحلية إلى التعبير عن القيم الجديدة كالتسامح بين الأديان و الانفتاح عن الآخر.. ، نجد الحبيب السايح لا يزال يسائل الواقع ويثوّر القيم فيه ، ولعل هذا الوعي بمفهوم المحلية هو الذي جعله لا يعوّل على القيم الجديدة التي تروّج لها العولمة الثقافية. فمنذ زمن النمرود التي كشف فيها عن كيفية اشتغال علاقات القوة التي فرضت هيمنة الحزب الواحد بكل انحرافاته، وهو يعاين نماذج محليّة ينتقيها من الطبقة الوسطى، والمهمّشة، ويسائل من خلالها مظاهر انهيار الحلم في الواقع من فساد و تزوير وبيروقراطية وهيمنة.


ولعلّ السؤال حول مشروعية العنف، أثناء العشرية السوداء ومشروعية الصراع، وأحقية شخص معين أو فئة في قتل شخص أو فئة أخرى، كان سؤالا مؤثرا منذ تماسخت دم النسيان حيث أعاد سؤال الخطيئة الأولى لقتل قابيل أخاه هابيل، وهو ماذا يفعل إنسان بإنسان آخر حين يلتقيه، وكان الجواب هو أن يقتله وجسدت مذنبون والموت في وهران وزهوة تنويعات للإجابة عن هذا السؤال، ومثل من خلالها مظاهر الانهيار وفضح أسبابه وآثاره على الفرد والمجتمع، ولقد كان ذلك من بين الأسباب التي قادت الحبيب السايح إلى إعادة إنتاج التاريخ.
فعلى الرغم من أن التاريخ ليس مسؤولا عمّا يحدث في الواقع، وهو صفحات مليئة بالأخطاء والانتصارات ولا يوجد تاريخ كله أبيض، إلا أن الحبيب السايح شأنه شأن معظم الروائيين الجزائريين الذين شغلتهم مآسي العشرية السوداء، وقد هاله انهيار مشروع الدولة الوطنية التحديثي، شرع ومنذ ذاك الحنين وتلك المحبة في ملامسة ملامح الموقف الاجتماعي في التاريخي وتبيّن له حين تراءى العنف باعتباره نتيجة حتمية لانهيار المشروع التحديثي ، تبيّن له أن القيم الجديدة التي ارتبطت بالثورة وبهذا المشروع لم تجد لها تطبيقا في الواقع؛ ولذلك عبّرت روايات زهوة ومذنبون والموت في وهران عن معاينة ومساءلة أسباب هذه النتيجة المروّعة التي كانت لها آثار وخيمة على الفرد والمجتمع وعلى المؤسسات التي يفترض أن تحمي الفرد و المجتمع .
يتجلّى سؤال التاريخ عند السايح، ليس باعتباره كينونة ثابتة تمّ انجازها واستقرّت حركتها، بل هو حركة تمتد مكانيا وزمانيا، ولا تنفصل عن الحاضر والمستقبل، ولذلك يصبح التاريخ موضوعا قابلا لإعادة الإنتاج وإعادة القراءة والتأويل؛ ولذلك نجد التاريخ السياسي في كولونيل الزبربر يتحوّل إلى موضوع مساءلة ومجابهة، ولعل الحبيب السايح قد تأنّى قليلا قبل أن يعلن هذه المجابهة ضد الذاكرة، فلما رأى المتاجرة بقيم التاريخ الثوري في الواقع واستغلالها لتبرير أحداث العنف قام بإعادة إنتاج تاريخ آخر، وتفكيك تاريخ العتمة وتعريته، والدفع بعجلة الذاكرة المضادة، إلى الواجهة؛ ففكّك المنظومة الفكرية التي قامت عليها سلطة مرتبطة بالهيمنة والإقصاء التي نشأت أثناء الثورة وظلت سائرة بعد الاستقلال ليتم توظيفها في جزائر الاستقلال.
إن هذه الاستراتيجة في مساءلة التاريخ، عبّرت عن نزوع نحو إعادة صياغة نمط الوجود المنمّط الذي كان قبل العشرية، ومساءلة الوجود الضائع الذي أفرزه العنف، والذي ما لبث أن خرج من التنميط حتى دخل في حالة أصبح فيها الإيمان بالقيم ضربا من الضياع.
لقد قوّض العنف كثيرا من الحقائق، وعلى رأسها الحقيقة المتعالية المتمثلة في الدين وثورة التحرير وأسهم في تقديم تفسيرات أخرى لما كان كامنا في المشروعية السياسية في الجزائر، وهكذا أعطى الروائي تفسيرا للعنف باعتباره تجسيدا لمعضلة أخلاقية، فعكف باحثا في تاريخ الثورة التحريرية، وفي جزائر الاستقلال ليكتشف أن هناك حالات عنف كانت تضاهي عنف الإرهاب، وقرأنا فيها عملية تفكيكية قامت على تجريد الحقائق من حقيقتها، حقيقة الثورة التحريرية ، الصراع داخل صفوف المجاهدين، حقيقة انسجام جبهة التحرير ذاتها، وحقيقة ما بعد الاستقلال، فتقديس الثورة لم يخل من أسطرة، كما أن المشروع التحديثي الذي تمّ تبنّيه بعد الاستقلال، ليس سوى ضرب من الطوباوية.


هنا انتقل العنف عند السايح من كونه موضوع تمثيل، إلى استراتيجية حرّكت المتخيّل الروائي، وسرعان ما انتقل إلى تأويله، ليصبح آلية من آليات تفكيك المتخيل الاجتماعي والسياسي الراهن.
ولذلك أصبح كل شيء موضوع تفكيك: الوطنية والانتماء، التاريخ، الرموز،العدالة والقانون الدين، الأب، وظهر في روايات زهوة والموت في وهران وكولونيل الزبربر وأسعد المروري بأن هذه القيم هي مجرد معايير شكلت تصورنا لنظام مثالي عن أنفسنا ساهمنا في اختراعه، وأوكلنا السياسي لتصميمه، وتحيينه في الواقع، لذلك هو ينسجم مع أهداف الهيمنة ويعبر عن علاقات القوة في المجتمع الجزائري، فكان لا بد من تفكيكها بالتشكيك فيها ومحاولة البحث عن حقائق أخرى ، مضمرة، وذلك هو سؤال القيم، لكن القيم معرّضه للتزييف والتزوير والتضليل والمتاجرة، ضمن ما يتعرّض له حاملها التاريخي والثقافي والديني ، وهذه القيم ليست كائنات معلقة في الفراغ ومثبته في المجرد، بل هي صفات تابعة للتاريخي والسياسي والاجتماعي، وتتجلّى من خلاله، فحين يلحق أي عطب بواحد من هذه الحوامل يلحق العطب نفسه بالقيمة ذاتها، فتتغير حقيقتها وتتفكك هويتها.
في زمن النمرود مثلا، حدث تشويه رهيب في هوية القيم الاجتماعية ومشروع التحديث. وفي كوليونيل الزبربر تمت المتاجره بالتاريخ والثورة والنضال والوطن، ولذلك كان على الرواية أن تعّين أسباب ذلك التشويه ، وتفضح مسببيه، ربما لم تتعرض قيمة للتشويه الرهيب كما تعرضت قيمة النضال والوطنية ومشروع التحديث بعد الاستقلال ولذلك نجده في رواياته يتحدّث عن هذا التشوّه الذي طالها ووصل إلى حد الاغتيال والغريب أن المؤسسات القائمة على إبراز الحقيقة والحفاظ على القيم نجدها متواطئة وتدخل في تكوين صراع القوة لتنحاز إلى قوة الهيمنة مثلما هو في إخفاء حقيقة قتل أسعد المروري.
ولكن كيف تجلت هذه المساءلة والمواجهة على مستوى البناء اللغوي، خاصة وأن سؤال اللغة ذاته يعد رهانا بالنسبة إلى الروائي؟
على الرغم من أن اللغة هي أيضا رؤية وقيمة في حد ذاتها، وهي الكتابة نفسها، إلا أن امتلاك الحبيب السايح حرية التحرك في مساحة اللغة السردية وبطريقة مربكة للقارئ جعلنا نعتقد أنها بالنسبة للكاتب رهان أساسي.
فمنذ ذاك الحنين دخل الكاتب في مشروع تثويري من خلال الهامش لكي يتسامى على لغة الخطابات التي يفكّكها. ولذلك قام بتهشيم الصورة التي تستعمل بها اللغة في هذه الخطابات بمخالفة القاعدة المستعملة واللّجوء إلى اللغة الشفوية التي تمثّل الذاكرة الحيّة في المجتمع الجزائري مثّلها سارد يقلب الموازين بما يشبه الهذيان السردي الذي يضاهي الحماقة الجماعية التي يتخبّط فيها المجتمع حدّ الجنون؛ ولذلك عمد الروائي إلى استعارة أنماط متعددة من اللغة المحكية في فضاء السوق، وفي حلقة تختصر حالة الانهيار القيمي التي وصل إليها المجتمع.

لقد سمح الكائن السارد القابع في أعماق المؤلف أن يتأمّل أشكال السرد القديم والحديث، واللغة العربية ليسعى في كل رواية إلى من رواياته إلى خوض تجربه أسلوبية مختلفة، يسعى أن يتجاوزها بأخرى ثم يتجاوز الأخرى بأخرى، وهكذا بشكل مستمر في حوارية تقوم على الكثافة اللغوية معجما وتركيبا ودلالة، ولذلك نجده يشغّل في كل مرة نمطا سرديا فمن التراث الشعبي إلى العجائبي والصوفي إلى الفلاش باك إلى ما يشبه التقطيع السينمائي فالمتخيل السيري إلى خطاب الاعتراف إلى المذكرات فالسرد البوليسي وهكذا..انسجاما مع تيمات النص الروائي.
إن المتتبع لأعمال الحبيب السايح، يلاحظ ومنذ البداية وفي غمرة الشد الإيديولوجي يجسّد فرادة أسلوبه من خلال نسج عناوين خارجة عن المألوف لما يكتنفها من طاقة مجازية، فعناوين مجموعاته القصصية ورواياته التالية: “. “الصعود نحو الأسفل”. “الموت بالتّقسيط”. “البهية تتزيّن لجلادها”.:”زمن النمرود” “ذاك الحنين”. “تماسخت” دم النسيان “تلك المحبّة”. “مذنبون، لون دمهم في كفي”. زهوة والموت في وهران، يلاحظ حجم الكثافة الشعرية التي تقوم عليها لتشكل استراتيجية تواجه البلاغة القائمة. ولعل هذا الانزياح هو الذي جعله يتميّز ببناء جمله بطريقة مربكة، وهو ما يحدث وقعا جماليا يكون فيه مع القارئ دائما على مسافة ما ويصدمه في كل مرة مثيرا أوقاعا جمالية مختلفة الأمر الذي خلق إشكالية تواصل قد لا تسمح للقارئ العادي أن يستوعب نمط أسلوبه، مما يقتضي قارئا حاذقا مؤولا لا يركّز على الحكاية فحسب بل على الصياغة والتّشكيل المختلف في علاقتها بما تحكي.


وانسجاما مع الأسئلة سالفة الذكر، التي تقوم أساسا على التثوير والمجابهة، يقوم تعامله مع اللغة العربية أيضا على التثوير والتقويض، لأنه من ناحية موضوعية لا يمكن أن يكون الموضوع قائما على التفكيك بلغة مستهلكة أو بلغة خطاب المؤسسة اللغوية السائدة.وهو مبرر منهجي يقتضيه شرط تلقي النص المختلف، مادامت كل مظاهر التقويض تسهم في بناء المعنى بل إن تجاوزات القاعدة المتداولة في بناء الجملة العربية يشكل نداء قادما من النص لإنتاج الوقع الجمالي.
يبدأ تشكّل الوقع من العنوان وأحيانا الإهداء، وهو لا ينتظر كما في باقي النصوص أن يتعود القارئ، ويستدرجه شيئا فشيئا حتى يألف الأسلوب ولا ينتظر حتى يقطع القارئ شوطا ليفاجئه وهذا هو مفهوم الوقع عند ياوس، بل يجابهه من أول سطر تقع عليه عيناه ، لينفتح النص على وقعه من أوّل اتّصال به، وبمجرد ما يحصل التّشويش و يحسّ القارئ بان التواصل حدث فيه إشكال، يتم مضاعفة الجهد لكي يستمر التفاعل ويتم بناء المعنى، وهو الأمر الذي قد لا يتحقق لدى المتلقي الكسول الذي بمجرد الإحساس بأن إشارة ما تشوّش عليه يغادر النص ويصدر أحكاما بالغموض والصعوبة .
يرصف الحبيب السايح جمله نحويا ودلاليا بطريقة مربكة للقارئ، وقد بدأ هذا الإرباك خاصة منذ ذاك الحنين وتلك المحبة ليبلغ الذروة في تامسخت دم النسيان التي عبّر فيها تشظي اللغة بكل مستوياتها عن تشظّي قيمة الوطن والإنسان في الجزائر، والغريب أن هذا التشظّي تنصهر فيه جميع الأساليب واللغات لتخلق حوارية، حرّرت رواية الأزمة من أحاديتها في الوقت الذي كانت فيه الكثافة الاستعارية في هذه الرواية، تبئر تبعات العنف لِيؤرخ بها الحبيب السايح للحظة جمالية مختلفة في التعامل مع موضوع العنف.
في كولونيل الزبربر يفكك السائح أسباب فشل المشروع التحديثي في الجزائر ويغوص في أسبابه التي تعود إلى صراع الزعامات في الثورة الجزائرية، والتي كانت سببا مبطنا للعنف، فيعيد من خلال تفكيك متخيّل الثورة إلى تفكيك الذات، وينسحب التفكيك إلى خلق سرد مضاد للرواية قائم على أسلوب المذكرات الذي يختلف عن كثافة بلاغة تماسخت، التي قامت على مواجهة الخطابات واللغات والأصوات بعضها ببعض، وجسد من خلالها الصراع الرمزي الذي يخترق الخطاب الاجتماعي، ويكشف عن آليات هذا الصراع في الاستراتيجية البلاغية التي تقوم على التكثيف وحركة تدفق الموضوعات والفواعل والأساليب التي تماثل حركة انتشار العنف في جزائر التسعينيات ومقدار الحماقة التاريخية التي استباحت الدم البريئ كما قال الروائي عن تماسخت. ويقدمها في شكل من الكثافة التي ” يصنعها كم هائل من اللألفاظ المعتادة والغريبة والقديمة والقديمة والجديدة، والمشتقة والمنحوتة واللهجوية والفصيحة، وكم هائل من الأفكار والرغبات والمشاهد والذكريات والمشاعر والصور، التي تحتويها مجموعة من المواقف المتتابعة سرديا وأسلوبيا وليس حدثيا، بعرض غير مكتمل من التفاصيل، ليتم رصف أكبر عدد ممكن من المواضيع، فتبدو الرواية كلام متكلم محيط بكل ما حوله منطلق بسرعة مدهشة في صنع اللغة” التي تكتب ذاتها وتقولها.
في الرواية الأخيرة من قتل أسعد المروري القائمة السرد البوليسي، ومن داخل مجريات التحقيق شبه البوليسي الذي يقوم به الصحفي رستم وصديقته الطبيبة الشرعية لطيفة حول مقتل المثقف أسعد المروري، نستشف سؤالا محتملا والذي قد يكون جال بخاطر الحبيب السايح بعد أن كتب كولونيل الزبربر، هل فعلا التاريخ وحده هو المسؤول عما يحدث، أيمكن أن يكون التاريخ غير مسؤول عن أحداث الواقع؟ ولذلك يعاين غياب قيمة العدل،التي بدأها في مذنبون، ليدين من خلالها إرادة تغييب ميزان الحياة فإذا كان المذنب لا يعاقب والبرئي يغتال فالحياة ليست جديرة بأن تعاش.
في هذه الرواية يعرض السايح التشويه الذي طال قيمة القيم من خلال اغتيال صوت المجتمع المدني المتمثل في أسعد المروري، الأستاذ الجامعي والناشط الحقوقي والمسرحي من جهة وصوت الصحفي الذي تولى مهمة التحقيق مع طبيبة شرعية دون أن يصل إلى الحقيقة. وينسجم الحديث عن هذا التشويه مع اختيار هؤلاء الممثلين الذين يمثلون صوت الرأي العام والذين يمكنوا أن يقولوا لا ، لكن أصواتهم في الرواية تطمس بالاغتيال والتلاعب، وهو المستوى الذي وصل إليه الانهيار، كما تتماثل المسرحية التي ابتدأ بها السارد المشهد الروائي مع طبيعة الرأي العام، والتي سعى من خلالها إلى بناء معرفة، عن شيء غير معروف وتفسير ما هو معروف، وإضاءة مواطن العتمة، من خلال التحقيق البوليس الذي يتولاه هذه المرة بخلاف الروايات البوليسية الصحفي والطبيب ليصبح صوت الشرطي ثانويا، وهو يقدم صرخة أخرى ضد تزييف الواقع، والتغطية على جرائم ، فيتقاطع النمط البوليسي مع حالة الإحباط العامة، فالصحفي وهو النموذج الممثل للرأي العام، والوحيد الذي يستطيع التكلم، يقف أمام اغتصاب الحقيقة والمعنى دون أن يقدر على فعل شيء، على الرغم من أنه ناضل في التحقيق للوصول إلى الحقيقة، ولعل الهاجس المركزي في هذه الرواية، كيف يمكن للرأي العام أن يقول لا، أمام من يزيفون الواقع والحقيقة والمعنى، وكيف يمكن فضح هذه المنظومة الخفية والظاهرة التي تتعاون من أجل طمس الحقيقة واغتصاب الإنسان والحياة.؟
وعلى الرغم من أن السائح هيأ لهذا الهاجس معادلا تمثيليا يتمثل في اختيار ضحية تنتمي إلى التعليم وحقوق الإنسان، كما اختار صحفيا وطبيبة للقيام بمهمة التحقيق، إلا أن الرواية انتهت إلى ما يشبه الوهم الذي يعيشه الإنسان ممثلا في الرأي العام، والذي يتعرض إلى أساليب التشويه والتزييف واغتيال الصوت الحر .
ولذلك جاءت الرواية على مستوى البناء منسجمة مع فكرة المواجهة، فالمسرح والصحافة والتحقيق كلها فضاءات لطرح فكرة المواجهة ، لكنها تصطدم بوجود كائنات مشوهة من الداخل، عاجزة عن الإمساك بالمفهوم الحقيقي للوجود وللمواطنة، لأن الحياة مؤسسة على قواعد خاطئة، ولذلك يعتمد الروائي على تقويض الذائقة اللغوية، وذلك من خلال مسرحتها، كما تلعب المسرحية في الواقع، ويلجأ إلى مسرحية على مستوى اللغة تأخذ من الاستجواب طابعه، ومن زعزعة يقين القاعدة اللغوية المألوفة أساليبها كتقديم مقول القول على فعل القول، محدثا نوعا من الخلخلة في السرد، الذي يجعله يلهث كما يلهث الصحفي وراء حقيقة مقتل أسعد المروري، إنه يلوي عنق الأسلوب العربي لينسجم مع فكرة المسرح والتحقيق، الذي يوازي لَيّ عنق مؤسسة القانون، فإذا لم يكن من العدل أن يعرف القاتل الحقيقي فليس من العدل أن يتقدم فعل القول على المقول أو يتناوب السرد والوصف، ولذلك تقدم مقول العدل المتمثل في الحكم بإدانة الشاب سفيان، على فعلها الحقيقي وهو الوصول إلى حقيقة من قتل أسعد المروري، إن هذه الرواية هي بمثابة إشعال عود كبريت في كومة خشب، وقد أكدت لنا بأن هناك عتمة في كل مكان، وإذا كان الأدب غير قادر على جعلنا ننظر بطريقة أحسن، كما قال فولنكنر، فإنه جعلنا في هذه الرواية أكثر قدرة على قياس سمك هذه العتمة.
لا شك أن فلسفة الكتابة لدى السايح تمثل هذه الحالة التي تحثّ على تغيير عاداتنا القرائية وتدفع القراء في كل رواية إلى طرح السؤال الفلسفي القائم على تفسير نشأة الظواهر وعلاقة الرواية بالتحولات السياسية الاجتماعية الكبيرة وكيف يمكن أن نتخذ من الرواية وسيلة لتفسير الصراعات مثلما ساهمت الرواية الغربية في تفسير الحالة الفكرية لدى الغرب مثلما نجده لدى غولدمان في البحث عن الإله الخفي، من خلال أعمال راسين وفكتور إيغو، ونجده لدى باختين في نظرية الحوارية، فما أحوجنا لقارئ يحوّل النص الروائي إلى نص منتج للنظريات، خاصة ونحن نفتقد إلى بناء النظرية، وصياغة المناهج، لأننا لا ننتج المعرفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *