إدريس بوديبة
وسطهذه المناخات الكونية الضّاجّة بالفقدان والإرتباك، نستقبل ذكرى اغتيال الشاعر والروائي و الإعلامي ” الطاهر جاووت” ” TAHAR Djaout ” ، هذه الشخصية الثقافية المؤثّرة و الملتزمة التي دفعت حياتها ثمنا لمعتقدها الصّلب في الدفاع عن قيم الحرية و العقل و الإبداع و المواطنة ، إن هذا الأديب المتمرّس سليل المنطقة الساحرة “أزفون” القلب النابض للثقافة الوطنية التي أنجبت العديد من القامات السامقة أمثال : إقربوشن ، إسياخم ، العنقى ، فلاق ، حلمي و غيرهم …، كنا مجموعة من أدباء الشرق قد تعرفنا على الفقيد ” الطاهر جاووت” كما أشار الأديب ” محمد زتيلي” في الثمانينات من خلال الحضور الدائم لأغلب المهرجانات و اللقاءات الأدبية، أحيانا كمدعوين و أحيانا كمنظمين و فاعلين ، و المدن التي كانت تجمعنا هي على الخصوص قسنطينة ، وهران ، سكيكدة ، عنابة ، سعيدة ، بسكرة و غيرها …
لقد كان ” الطاهر جاووت ” بهدوئه ودعة أساريره و شواربه المميزة و مظهره الأنيق الذي لا يشبه أحدا غيره، و رغم ما يبدو عليه من تحفظ و انطواء ، فبمجرد اقترابك منه يمنحك مودته و اهتمامه ، و قد تكون هذه الصفة سببا في اتساع دائرة الصداقات التي تربطه بالعديد من الأدباء الذين يكتبون باللغة العربية ، كما كان على اطلاع واسع بمختلف التيارات الفكرية و الفلسفية و تاريخ الفن و السينما ، بالإضافة إلى تعلقه ببعض الأدباء الجزائريين، و منهم الفقيد ” رابح بلعمري ” الذي أعتبر نفسي قد اكتشفته من خلاله ، و دفعني هذا للاطلاع على أعماله ، و بالفعل نظمت ملتقى علميا حول حياة و أعمال “رابح بلعمري” في سنة 2011 حين كنت مديرا للثقافة بولاية سطيف ، و هو على ما أعرف أول ملتقى ينظم حول هذه الشخصية الأدبية الفذة .
لقد كان لقائي الأخير بالطاهر جاووت قبل اغتياله بأيام في منتصف ماي 1993، حيث كنت أسير في شارع ديدوش مراد بالجزائر العاصمة، و فجأة و بلا موعد رأيته ينتصب أمامي فتعانقنا بمودة ، و كان يبدو منهكا و مكدودا و العرق يتصبب من جبينه و هو في حالة ذهنية مضطربة ، و مع ذلك أصر أن يدخلني لأقرب مقهى قائلا: لا يعقل أن لا أجلس معك و لو لدقائق و أنت القادم من قسنطينة ، و بالحرف قال لي (عيب يا إدريس أن أتركك …) ، لقد كان في طريقه إلى مقر جريدته ، تحدثنا قليلا ثم بادرني مازحا بالسؤال: هيّا كيف نترجم إلى العربية عنوان الجريدة ( Ruptures ) فقلت له ( قطيعات ) و ( قطائع) و أردفت ضاحكا : المهم يا الطاهر ابتعد فقط عن مصطلح ( القطيع) و ( القطعان) ، استلطف هذه المزحة و قهقه بصوت عالي ، قائلا : اطمئن لن يحدث هذا ، و سألني بإيجاز عن أخبار الصديقين ” محمد زتيلي ” و الراحل” مصطفى نطور” ، ثم ودعني على عجل و كأنه كان يسابق الموت لإصدار العدد الأخير من أسبوعيته.
كان هذا آخر لقاء جمعني به في منتصف شهر ماي 1993 ، قبل اغتياله يوم 26 ماي بأحد الأحياء الشعبية في بينام.
كانت الصدمة كبيرة وعنيفة داخل الوسط الثقافي والإعلامي إثر هذه الفاجعة التي ألقت بظلالها على الحياة اليومية للمثقفين و الإعلاميين، الذين اضطر البعض منهم لمغادرة مساكنهم أو الرحيل، لأن مسلسل الاغتيالات قد تسارع ، وكان من أكثر المتأثرين بتداعيات هذا الاغتيال الجبان الكاتب الروائي ” خلاص جيلالي “، الذي كانت تربطه بالفقيد وشائج متينة و قوية ، فقد عصفت به هذه الفجيعة و تعرض لانهيار نفسي كاد أن يقذف به في الظلام .
عادة كلما ذكر اغتيال “الطاهر جاووت”، يتهادى للأذهان التصريح الشهير للروائي ” الطاهر وطار ” الذي اعتبره المثقفون موقفا عدميا وعدائيا، لا يليق بأديب يساري كبير انساق لمقايضة الإسلاميين على حساب قيمه الفكرية و الإنسانية، التي ظل يبشر بها في كتاباته و تصريحاته ، على أية حال يمكن القول أن ” الطاهر وطار” هو حالة خاصة في ” تركيبته” التي مهما اجتهدنا في تحليل مكوناتها فلن نجد الإجابة عنها.
و من الصدف أنني كنت مع ” وطار” بالجاحظية يوم اغتيال الشاعر و المفكر “يوسف سبتي”، حيث استضافنا في بيته أنا و جميلة ، و إن يكن هناك من يتهمه بالبخل في حياته اليومية، فإنه يتحول إلى شخص آخر حين يدعوك إلى بيته فهو في منتهى الكرم و السخاء و حسن الضيافة ، و كما هو معروف فقد كان بيته مأوى لاستضافة الكتاب و الأدباء من كل الاتجاهات و الأطياف .
كانت الساعة في حدود التاسعة صباح يوم 28 ديسمبر 1993 ، حين نزل علينا خبر إغتيال ” يوسف سبتي ” ، هذا المثقف العلماني المتصوف الذي اختار أن يعيش وحيدا وأغلب أكله هي كسرة الشعير و البقول ، وتكاد علاقته بوطار ان تجعل منه واحدا من اسرته ، فهو أمين عام جمعية الجاحظية و صديقه الشخصي لسنوات طويلة.
مازلت أذكر حالة الذهول و الصمت التي خيمت علينا لدى سماعنا الخبر المشؤوم، و بعد حوالي الساعة ، استعاد وطار أنفاسه المقطوعة ، و من جهتي كنت أتابع حركاته و ردود افعاله ، و كنت مشدوها لبروده الرخامي ، ثم فاجأني بقوله : إن “السبتي” لم يقتل على يد الإرهابيين ، فلا يمكنهم تكسير بابه و اقتحام بيته دون أن يطلق عليهم النار من بندقيته ، و في مساء ذات اليوم قال لي : أرجح أن يكون قد شنقه (أصدقاؤه) الذين كانوا متواجدين معه في بيته، أو أن يكون هو ذاته من قام بالانتحار شنقا. و حتى الآن لم أستطع فهم هذه الأطروحات التي قدمها يومئذ ” وطار” عن اغتيال صديقه ” يوسف سبتي”.
إن تناولي لهذه الجزئية البسيطة عن “الظاهرة الوطارية” بكل ما لها و ما عليها، هو استعراض لبعض المحطات الراسخة في ذاكرتي الشخصية ، و لكن النص يبقى وحده المرفأ الأخير الذي يلجأ إليه الدارسون للاستئناس و تفكيك مراكبه و أشرعته و الإنصات لتموجاته ، فلكل نص إيقاعه و التباسه و معقوليته.
إن ” الطاهر جاووت ” سيظل واحدا من المثقفين الذين ينتمون لسلالة العصافير النادرة ، فلقد كان له مشروعه الثقافي و رؤيته الفلسفية للعالم التي تجمع بين الهوية و الاختلاف و الانعطاف على الجوهر الإنساني في حقيقته العرفانية المتعالية التي تناهض البداهة و اليقين.