هل هِي “العَدالة الإلهيّة” أن يَدخُل ساركوزي السِّجن في اليَوْمْ الذي يترشَّح فيه سيف الإسلام القذافي لخَوض الانتخابات الرئاسيّة الليبيّة المُقبِلة؟ وكيف نُقيِّم فُرَصَهُ في الفَوز؟ ولماذا نُراهِن على وَعي الشَّعب اللّيبي واستيعابِه دُروس المُؤامرة هذهِ المَرّة؟
المُفارِقات القادِمة من ليبيا كثيرةٌ هذهِ الأيّام، وأحدثها، وأكثرها غَرابة، أن يُعلِن المهندس سيف الإسلام القذافي ترشّحه في انتخابات الرئاسة التي من المُقرّر أن تَجري في الثُّلث الأخير من هذا العام، في اليَوْمْ نفسه الذي اعتقلت فيه الشُّرطة الفرنسيّة نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي الأسبق الذي لَعِب دَورًا أساسيًّا في إطاحة حُكم والِده وقَتلِه بعد تدخُّل قوّات حِلف النّاتو عَسكريًّا عام 2011.
الشرطة الفرنسيّة اعتقلت الرئيس ساركوزي تمهيدًا لاستجوابِه حول تلقّيه خمسة ملايين يورو نقدًا من العقيد الراحل معمر القذافي لتَمويل حملتِه الانتخابيّة التي خَرج فائِزًا منها عام 2007، وكان المُقابِل دعوته لزِيارة فرنسا ونَصبِه خيمته أمام قصر الإليزيه وسط حَفاوةٍ غير مَسبوقة.
رجل الأعمال اللبناني الفرنسي زياد تقي الدين أكّد في حديثٍ مُطوّل مَدعومٍ بالوثائِق، لمَوقع “ميديا بارت” أنٍه حَمل ثلاث حقائِب مُحشوّة باليوروهات مُرسَلة من العقيد القذافي إلى ساركوزي، ورئيس حَملتِه الانتخابيّة، كما جَرى اعتقال رجل أعمال لُبناني فرنسي آخر يُدعَى ألكسندر الجوهري في بريطانيا للاشتباه بِنَقله أموال من القذافي إلى أحد مُساعِدي ساركوزي.
أن يتحرّك المهندس سيف الإسلام القذافي بِحُريّة، بعد تبرئته من التُّهم المُوجّهة إليه وإطلاق سراحه، ويتقدّم للترشُّح لرئاسة ليبيا في وقتٍ يَقبَع فيه المُتآمِر الأكبر الذي خَطّط مُؤامرة غزو ليبيا وأطاح حُكم والده، فإنّ هذهِ المُفارقة قد يُصنّفها البعض في خانة “العدالة الإلهيّة”، وأن الخالق جلّ وعلا “يُمهِل ولا يُهمِل”، فأيدي ساركوزي وحُلفائِه من الليبيين والبريطانيين مُلطّخة بدِماء أكثر من 35 ألف ليبي استشهدوا من جَرّاء قَصف طائِرات حِلف “النّاتو”.
ساركوزي، وباعتِراف سيلفيو برلسكوني، رئيس وزراء إيطاليا الأسبق، هو الذي وَقف خلف “فَبركة” الثورة الليبيّة، للانتقام من العقيد القذافي الذي حارَب بِشَراسة النُّفوذ الفرنسي في أفريقيا، وكان خَلف إطلاق الاتّحاد الأفريقي، وإصدار عُملة إفريقيّة مُوحّدة (الدينار الأفريقي)، وتَوفير الغِطاء اللازم من الذَّهب والمعادِن الثّمينة كبَديل للدولار واليورو.
الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أعرب عن نَدمِه الشديد لمُوافقته على تَدخُّل حِلف “النّاتو” عَسكريًّا في ليبيا، وقال أنّه أحد أبرز أخطاء فترتيّ رِئاسته، وذلك بعد اطّلاعه على حقائِق “الفَبركة” وحملات التَّضليل المُتعمّدة، واتّهم ساكوزي وشَريكه ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا السابق بالوُقوف خَلفها.
نُرجِّح احتمال إدانة ساركوزي من قِبَل القضاء الفرنسي لوجود الأدلّة والشُّهود مَعًا، ولكنّنا لا نَستطيع أن نتكهّن بحَجم فُرص نَجاح سيف الإسلام القذافي في مَعركة الانتخابات الرئاسيّة القادِمة، فالمَشهد الليبي يَنطوي على الكثير من الضبابيّة، ولا نَعرِف ما إذا كانت هذه الانتخابات سَتُجرى أساسًا أم لا.
المهندس سيف القذافي، وحسب ما أعلن السيد أيمن بوراس، المُكلّف ببرنامجه السياسي في مُؤتمرٍ صحافيّ عقده في تونس الإثنين، سيُركِّز في هذا البرنامج على “استعادة هويّة ليبيا العربيّة الأفريقيّة الإسلاميّة، وحِماية الحُريّات الخاصّة والعامّة، والقَضاء على الإرهاب”، وأضاف السيد بوراس “أن حل الأزمة الليبيّة لن يَحدُث، ولن يَمُر دون رؤية سيف الإسلام الذي يَلتَف حوله أغلب الشعب الليبي”.
الليبيون، أو الغالبيّة منهم، تترحّم على عَهد العقيد معمر القذافي، بعد أن عانوا كثيرًا من حالة الفَوضى الدمويّة التي تَسود بِلادهم مُنذ الإطاحة بِه قبل سَبعة أعوام، وهذهِ هي أبرز نُقاط قُوّة نجله سيف الإسلام وريثه الشَّرعي، ويَكفي الإشارة إلى أن أكثر من 360 مليار دولار تركها الحُكم السابق كودائِع باسم الشعب الليبي في العَديد من المصارف الغربيّة تَعرّض مُعظَمها للنَّهب من قِبَل حُكّام ليبيا الثَّوريين الجُدد، كان آخرها سَرِقة 15 مِليار دولار من مَجموع 20 مليار دولار كانت مُودَعة في مصارِف بلجيكيّة، مِثلما أفادت أنباء مُوثّقة قبل أُسبوعَين.
مُحاربة الفَساد، واستعادة أموال الدَّولة، وتحقيق الاستتاب الأمني، وتوحيد غالبيّة القبائِل الليبيّة خلف حُكومة مركزيّة قويّة، والقَضاء على الجماعات الإرهابيّة المُسلّحة، وحَل الميليشيات ونَزع سِلاحها، ربّما تكون حتمًا العَناوين الأبرز في حَملات المُرشَّحين مِثل سيف الإسلام القذافي ومُنافِسيه في الانتخابات المُقبِلة.
سيف الإسلام القذافي سيَرتكِز على تُراث والده في إقامة دولة مركزيّة قويّة تُشكِّل عُنوانًا للوِحدة الترابيّة والقبليّة الليبيّة، ولذلك من غَير المُستبعَد أن يتمتّع بِحُظوظ لا بأس بها بالفَوز في ظِل حَنين الليبيين للماضي، وفُقدانِهم الأمل بالحاضِر الدَّموي الذي أدّى إلى تَهجير نِصفهم للنّجاة بأرواحهم إلى دُول الجِوار، أي مِصر وتُونس، ومُواجهة ظُروف صَعبة في الحالين، أي في الدَّاخِل والخارِج.
صناديق الاقتراع سَتكون هي الحُكم في نِهاية المَطاف، وحَدس الشَّعب الليبي، أو مُعظَمه، لن يُخطِئ هذهِ المَرّة، بعد أن اكْتَوى طِوال السَّنوات السَّبع الماضِية من التَّضليل والكَذب الإعلامي، والتدخُّلات العربيّة والأجنبيّة في أدق شُؤونِه الوطنيّة والخاصّة، ونَحن في هذهِ الصحيفة “رأي اليوم” سنَقِف في خَندق هذهِ الانتخابات الديمقراطيّة، وسنَحتَرِم الفائِز فيها، أيًّا كانَت هَويّته.