يقَعَ في هذا الشهر الفضيل بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ مِنَ مَشَاكِلَ كَانَ سَبَبُهَا تَقَصِّيَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَتَبُّعَ الْأَخْطَاءِ وَالْبَحْثَ عَنِ الْمَقَاصِدِ!
وَلَوْ أَنَّهُمْ رُزِقُوا أخلاق التَّغَافُلَ لَزَالَ عَنْهُمْ شَرٌّ كَثِيرٌ.. وكَمْ نَحْنُ بِحِاجَةٍ إِلَى التَّغَافُلِ مَعَ أَوْلادِنَا وَغَضِّ الطَّرْفِ عَنْ أَخْطَائِهِمْ! خُصُوصَاً مَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَفْوِيَّا وَلَمْ يَكُنْ مُتَكَرِّرَا، وَكَمْ نَحْتَاجُ لِلتَّغَافُلِ مَعَ أَصْحَابِنَا فَلا نُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْهُمْ، وَلا نُحْصِي عَلَيْهِمْ كُلَّ فِعْلٍ صَدَرَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّنَا إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَقَدْنَا مَحَبَّتَهُمْ وَزَالَتْ عَنَّا أُخُوَّتُهُمْ..
فالله قَسَّمَ بَيْنَ عِبَادِهِ الْأَخْلَاق كَمَا قَسَّمَ بَيْنَهُمُ الْأَرْزَاق، أَحْمَدُ رَبِّي وَأَشْكُرُه، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُه، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاق، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ وَالتَّلَاق.
وَاعْلَمُوا أَنَّ صَاحِبَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللهِ وَمَحْبُوبٌ عِنْدَ النَّاسِ, وَهُوَ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَمَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ, وأَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ تَقْوى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ, فَعَلَيْنَا بِالتَّحَلِّي بِأَجْمَلِ الْأَخْلَاقِ طَلَبَاً لِمَرْضَاةِ اللهِ أَوَّلاً ثُمَّ إِحْسَانَاً لِمُعَامَلَةِ مَنْ حَوْلَنَا.
مَعْنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ خُلُقٌ رَفِيعٌ وَخَصْلَةٌ حَمِيدَةٌ وَمِيزَةٌ عَزِيزَةٌ، إِنَّهُ خُلُقٌ التغافل جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَزَخَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةٌ تَطْبِيقَاً وَعَمَلاً، إِنَّهُ مَحْمَدَةٌ سَبَقَ إِلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ الْكِرَامُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَأَتَمُّ السَّلَامُ-،.
وَالتَّغَافُلِ: أَنْ لا تُدَقِّقَ ولا تحقق فِي أَخْطَاءِ مَنْ حَوْلَكَ وَلا تَسْتَقْصِي مَا لَكَ مِنْ حُقُوقٍ وَلا تُعَاتِبَ مَنْ قَصَّرَ فِي حَقِّكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199
وَيُوَضِّحُ خُلُقَ التَّغَافُلِ فِعْلُ رُسُلِ اللهِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، فَهَذَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَ بَعْضَ زَوْجَاتِهِ بِحَدِيثٍ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي لَهَا إِسْرَارُهُ, لَكِنَّهَا أَفْشَتْهُ لِأُخْرَى مِنْ زَوْجَاتِهِ, فَلَمْ يُعَاتِبْهَا رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, فَضْلاً عَنْ أَنْ يَضْرِبَهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا – كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْأَزْوَاجِ الْيَوْمَ – بَلْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ وَلا تَحْقِيقٍ وَلا تَدْقِيقٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) التحريم: 3.
وَخَدَمَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَشْرَ سِنِينَ، وَمَعَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ كَلِمَةَ عِتَابٍ وَلَا لَوْم, عَنْ أَنَسِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: “خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ، وَاللهِ مَا قَالَ لِي: أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا؟” (رَوَاهُ مُسْلِم).
بَلْ كَانَ كَذَلِكَ حَتَّى مَعَ أَعْدَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانُوا يَلْعَنُونَهُ وَيَسُبُّونَهُ، وَيَقُولُونَ مُذَمَّمٌ, بَدَلَ مُحَمَّدٍ, وَمَعَ هَذَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَتَغَافَلَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَلاَ تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا’ وَأَنَا مُحَمَّدٌ” (رَوَاهُ الْبُخَارِيّ)، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَهَكَذَا دَافَعَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْهُ لَمَّا كَانَ يُؤْذَى مِنْ بَعْضِ زُوَّارِهِ وَلا يَقُولُ شَيْئَاً مُرَاعَاةً لَهُمْ وَتَجَنُّبَا لِإِحْرَاجَهَمْ, قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) [الأحزاب: 53].
والنَّبِيُّ الْكَرِيمُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-, سَمِعَ كَلِمَةً نَابِيَةً مِنْ بَعْضِ الْقَوْمِ وَصَفَوُهُ بِأَنَّهُ يَسْرِقُ فَأَعْرَضَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يُعَاتِبْهُ أَوْ يُعَاقِبْهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ حِينَ سَمِعَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ التِي فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي ثَنَايَا قِصَّةِ يُوسُفَ: (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ) [يوسف: 77.
وَهَكَذَا مَدَحَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الذِينَ لا يُقَابِلُونَ السُّفَهَاءَ بِمَا يَبْدُرُ مِنْهُمْ بَلْ يُعْرِضُونَ وَيَقُولُونَ أَطْيَبَ الْخِطَابِ، فَلا وَقْتَ لَهُمْ لِلْجِدَالِ وَالْخِصَامِ، وَلا لِلْهَمِّ وَالْغَمِّ, قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63].
فأَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَذَا الْخُلُقِ الْعَظِيمِ؟ونحن في شهر الصيام والقيام إِنَّكَ لَنْ تَخْلُوَ فِي أَيَّامِكَ مِنْ سَمَاعِ مَا لا يَنْبَغِي مِنْ صَدِيقٍ أَوْ قَرِيبٍ أَوْ زَمِيلٍ فِي الْعَمَلِ أَوْ جَارٍ فِي الْمَنْزِلِ، فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ وَمُطَارَدَةَ الْكَلَامِ، أَوْ أَنْ تُحَاكِمَهُ وَتُخَاصِمَهُ: مَاذَا تَقْصْدِ؟ أَوْ مَا مُرَادُكَ؟ بَلْ اجْعَلْ نَفْسَكَ كَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَكَأَنَّ الْأَمْرَ لا يَعْنِيكَ, وَسَتَجِدُ رَاحَةً فِي نَفْسِكَ وَهُدُوءً فِي بَالِكَ، بَلْ إِنَّ الشَّخْصَ الذِي تَكَلَّمَ سَوْفَ يَنْدَمُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَرُبَّمَا جَاءَكَ يَعْتَذِرُ.
بقلم الأستاذ جلول قسول
باحث وإمام مسجد القدس حيدرة