بقلم: عبد العزيز بوباكي
يوم كرّمتنا جمعية الكلمة، أنا وصديقي الأستاذ ناصر لعياضي، روى هذا الأخير قصة جميلة ذات دلالة عميقة، ملخّصها أن الكاتب والصحفي الفرنسي المشهور جون دانيال بنسعيد، رئيس تحرير المجلة الفرنسية “نوفال ابسرفتور”(سأحدثكم ذات مقال عن علاقته بالجزائر) سُئل عن النصيحة التي يُمكن أن يوجّهها للشاب الذي يريد أن يكون صحفيا. فكانت إجابته كالتالي: يجب عليه أن يُتقن ثلاث لغات على الأقل. ويعرف موضوعا ما خير معرفة، حيث يكون الوحيد تقريبا الذي يُدركه أفضل من غيره. ويختار، إن امتلك الحق في ذلك، شهر جويلية أو أوت؛ أي فترة الصيف، للانطلاق في العمل الصحفي. ويواصل حديثه قائلا: منذ فترة قصيرة جاءتني فتاة تريد العمل بمجلتنا. فتاة جميلة، وذكية وودودة، تشعّ حيوية ونشاطا. أخبرتني أنها مسكونة برغبة الذهاب إلى الشيلي. ويستطرد قائلا : سألتها هل تعرفين بابلو نيرودا. فكان ردّها بالنفي. ثم يردف: وغبريلا مسترال. ولا هذه أيضا. فيجيب عن سؤالها قائلا: إن قبريهما متقاربان في التشيلي، وقد نالا جائزة نوبل للأدب. فيقول جون دانيال لقد ردّت الفتاة عليّ قائلة: وما الفائدة من معرفتهما؟ فردّ عليها قائلا: إن الأمر بسيط جدا، فروح الشعوب، التي تبحثين عنها في التشيلي، لم يصفها سوى الأدباء. فالأدب هو روبورتاج صحفي يذهب إلى أبعد من الروبورتاج. فإذا أردت أن تكوني صحفية، فيجب عليك قراءة ما يكتبه الأدباء.
هذه حكاية دانيال مع فتاته، أما حكايتي أنا فمختلفة…
حين كنت رئيس تحرير “الخبر الأسبوعي” كلّمني المدير العام في التليفون قائلا:”ستأتيك فتاة، وقّع لها محضر تنصيب كصحفية”. وجاءت المحظوظة الموعودة بالمنصب، دخلت مكتبي واثقة من نفسها، ولسوء حظي أنها لم تكن جميلة مثل فتاة جون دانيال، ثم اكتشفت أنها ليست ذكية، وليست ودودة، ولا إشعاع فيها من الحيوية والنشاط. لم أسألها لا عن نيرودا ولا عن مسترال، فهذه أمور ليست في متناولها وسألتها:”هل عندك قلم؟” أجابت “لا”، “عندك أوراق؟” قالت:” لا”. سلّمتها قلمي وحزمة من الأوراق وقلت لها:”روحي إلى قاعة التحرير هناك واكتبي موضوع”. نظرت مستغربة وقالت:” وعلاش”، أجبت :”حتى نشوف لغتك وأسلوبك ونوظفك من بعد”، سألت :”واش من موضوع”، قلت:”الموضوع الذي تريدين”، بعد دقائق عادت وقالت:”يا الشيخ أنا ما نعرفش العربية، ماعليش نكتب بالفرنسية؟”، قلت لها:” ممكن وحتى بالدارجة إن أردت”. عادة إلى قاعة التحرير، وبعد مدّة عادت وسلّمتني ورقة بخط رديء، رحت اقرأها فصعقت، ولم أصدق ما أرى، الأخطاء الإملائية والنحوية أكثر من الكلمات الموجودة عليها. قبل أن تنصرف قالت لي بنبرة آمرة:” الشيخ وقّع لي المحضر راني مزروبة”، أجبتها:” ستجدينه عند المدير العام”.
بعد خروجها تذكرت الكلمات التي قالها لي الكاتب الجزائري مراد بربون:”الصحافة مهنة ممتعة ومتعبة، لكن يجب على المرء أن يعرف متى يدخلها في الوقت المناسب، ومتى يخرج منها في الوقت المناسب”. أما هذه المخلوقة الموعودة المحظوظة فلن تخرج منها، لأنها لن تدخلها أبدا!
ه