بقلم: أ.د. محمد الأمين بلغيث/جامعة الجزائر1
أتذكر أن جيلي قد عرف تجربتين هامتين في تلقي ونشر المعرفة التاريخية:
كانت التجربة الأولى مع المدرسة الإصلاحية ممثلة في جيل الرواد، الذين نافحوا عن الشخصية الجزائرية التي تقوم على الثوابت التي رسختها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، من خلال اللاَّزمة الشهيرة.
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب
أو رام إدماجا له رام المحال من الطلب
ويمكن أن نحدد جيل المدرسة الإصلاحية الإحيائية ممثلة في أعمال الأستاذ الشيخ محمد مبارك الميلي[1897/1945م]، حيث كان صدور كتاب “تاريخ الجزائر في القديم والحديث “في وقته عبارة عن مِعلم مضيء في تاريخ الشعب الجزائري الذي قال عنه الإمام عبد الجميد بن باديس رحمه الله لو سميته “حياة الجزائر”،لكان بذلك خليقًا، فهو أول كتاب صور الجزائر في لغة الضاد، صورة تامة سوية، بعد ما كانت تلك الصورة أشلاء متفرقة هنا وهناك. وقد نفخت في تلك الصورة من روح إيمانك الديني والوطني ما سيبقيها حية على وجه الدهر، تحفظ اسمك تاجًا لها في سماء العلا، وتخطه بيمينها في كتاب الخالدين .
ثم ظهر في أفق الجزائر أحمد توفيق المدني[فاتح نوفمبر1899/18 أكتوبر 1983م] الشاب الظريف والباحث الأنيق الذي جمع بين الأرومتين العربية والتركية ، كما جمع بين القطرين الشقيقين الجزائر وتونس، حينما أبعدته السلطات الاستعمارية من موطن أسلافه الذين استقر بهم المقام في الجارة تونس بعد اغتيال القطر الجزائري من طرف فرنسا رمز مغول القرنين التاسع عشر والعشرين، فقد، تابعنا كتبه وبصورة أخص مذكرات حياة كفاح في قسمها التونسي والجزائري، لأن تاريخ القطرين مشترك، فصحافته تونسية وجزائرية وحركة عمالته كذلك وأحزابه السياسية ونضاله الوطني هو عمل مشترك بين نخبتي البلدين خاصة بعد اندماج الهجرة الجزائرية في تونس في الشأن الثقافي والسياسي والنقابي مثلهم مثل الأشقاء في تونس، وهو ما تشهد به الدراسات المتينة في التاريخ والأدب والصحافة، وقد كان لنشر مذكرات توفيق المدني، مع كتبه الأخرى تأليفًا وتحقيقًا، ومنها كتابه الرائد في موضوعه “حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وأسبانيا [1492م/1792م]”، وكتابه مذكرات “أحمد الشريف الزهار نقيب أشراف الجزائر”، ودراسته القيمة عن “محمد بن عثمان باشا داي الجزائر [1180هـ/1766م/1206هـ/1792]” الذي كان ذا موهبة سياسية لا تنكر، مما جعله يحظى بإعجاب المؤرخين الجزائريين، والذي حاول أن يعيد الأمور إلى مجراها الطبيعي، أي أن يجعل من مدينة الجزائر عاصمة دولة موحدة، وأن يتحول من رئيس الديوان الساهر على مصالح الجنود الأتراك وأرباب البحر والتجار، إلى ملك على مجموع الجزائر .
رغم الإستراتيجية السياسية والدبلوماسية التي سلكها السلطان محمد بن عبد الله الطامح لتحقيق الزعامة على الغرب الإسلامي واحتلال مكانة شرفية رفيعة في العالم الإسلامي فقد كان له الفضل الكبير في تبادل أسبانيا والجزائر أسرى الحروب الطويلة بينهما كما أخبر محمد بن عبد الله في شهر ماي عام 1187هـ/1773م، الداي محمد بن عثمان باشا باستعدادات الأسطول النصراني الأسباني لغزو الجزائر، عندئذ أخذ الداي يستعد لمقاومة وردع العدوان على الجزائر برًّا وبحرًا .
كان أحمد توفيق المدني المولع بالتاريخ، شخصية نافذة نبيه الفكر يتفهم رجالات زمنه فقد شهد في أعماله بإخلاص الشيخ المولود بن الموهوب[1866/1939م] للوطن والإسلام فقد نقل المدني قوله”بيني وبين الفرنسيين حاجزًا لا أتخطاه سعيا إليهم، وحاولوا تخطيه سعيا إلي فما نجحوا، أقوم بواجبي نحو أمة الإسلام ولا أبخل بشيء مما أتاني الله من علم على جماعة المسلمين”
كُنَّا نستقبل كتب ومقالات ومحاضرات الأستاذ أحمد توفيق المدني بكل الحفاوة رغم اعتراضانا على كثير مما ورد في أعماله، خاصة ما تعلق منها بالخصوص بالثورة الجزائرية المباركة، وهو ما فصلناه في كتابنا تاريخ الجزائر المعاصر.
كما كانت لأعمال الشيخ عبد الرحمن الجيلالي نفس المكانة والتوقير والاستفادة عند جيلي وهو آخر الكبار من رجال ومؤرخي المرحلة الإحياية ، ويمكن أن نضيف إلى هذه الأسماء الكبيرة أعمال المؤرخ المناضل محمد الشريف ساحلي والمفكر الكبير مالك بن نبي الذي يعتبر عندنا نسيجًا وحده في أفكاره وتسجيله لتاريخ شعبه من خلال مذكرات شاهد القرن .
يقول شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله كان مالك بن نبي مفكرًا نبيهًا حاول أن يعطي محتوى فلسفيا للحركة الوطنية.كان ذكيا ناقدًا، عميق الإيمان بالإسلام السلفي.ونعني به المرحوم مالك بن نبي.لقد كان كما يقال-دولة وحده، وغير منتم كما يقول أحد الكتاب المعاصرين.ولسنا الآن نحاول أن نقيم أو نعرض لفلسفة ابن نبي في نهضة الجزائر والإسلام، فقد عرضها في كتابه:شروط النهضة ، الظاهرة القرآنية وغيرهما، وقد أصبحت أفكاره كما يقول شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله اليوم تمثل وجهة خاصة بين شباب العالم الإسلامي.وكل ما أردناه هنا هو أنه الوحيد تقريبًا الذي حاول أن يعطي بعدًا فلسفيا لمسار الحركة الوطنية .
ومالك بن نبي من الأوائل الكبار الذين تنبهوا إلى الانقسام الخطير الذي حدث بسبب توجهات مؤتمر الصومام، فقد كانت المعارضة للصومام قوية ولم تستطع لجنة التنسيق التغلب عليها لو لا انحياز بورقيبة إلى جانب اتجاه دون بقية الاتجاهات الأخرى، وأصحاب الاتجاه البورقيبي هم من قام بإعدام عبد الحي[السعيد] وثمانية عشر من أتباعه ، وهنا السؤال يطرح نفسه: على أي أساس يتناسى أنصار الصومام هؤلاء الأبطال الذين قتلوا ظلمًا وزورًا؟
شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله وذاكرة الجزائريين المشتركة
أما جيل الرواد من مؤسسي معالم المدرسة التاريخية الجزائرية وورثة لواء جيل الإصلاح والنهضة فرائدهم دون منازع شيخ المؤرخين الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله الذي ، أخذ بأيدينا للتعمق في مأساة شعبنا، وتاريخ أمتنا في لغة صريحة عنوانها المفضال “تجوع الحرة” ، فقد تعلمنا على يديه الصرامة في العمل والمنهج السليم في قراءة الأخبار، ومنه نسجل فجر التجربة الثانية الناضجة والأكاديمية التي كانت المصدر الثاني للمعرفة التاريخية عند جيلي على الأقل، وهو جيل وسط بين جيل الإصلاح وجيل الرواد من المؤرخين الأكاديميين الذين تشرفنا بتلقي الدروس والمناهج والمعارف على أيديهم منذ السنة الجامعية 1980/1981م.
وأول ما تعلمنا على يد شيخ المؤرخين لازمته الشهيرة حيث يقول:
“إن الجزائر رغم ما يقال عنها لا تتنكر لمن أحبها ولمن عاش وعانى من أجلها، فالوطن يطلب من أبنائه الوفاء والتضحية ولكنه لن يضيع حقهم في المكانة اللائقة بهم في حوليات تاريخه وسجلات رموزه، إن هذه الجزائر الحبيبة عاشت بقيم وثوابت أخلص لها أجدادنا وكافحوا من أجلها وماتوا دونها، ولا يليق بجيلنا اليوم أن يتنكر لهم تحت أي عنوان أو مبرر، لقد رفض أجدادنا مغريات الاستعمار في الحصول على مواطنة مزيفة أو على جنسية مشوهة بجبرهم عن التخلي عن هويتهم[مثل قانون نابليون سنة 1865، ومشروع فيوليت سنة 1936، وقرار لجنة فرنسا الحرة سنة 1944….]، ذلك أن أجدادنا كانوا يعرفون أن وراء قبولهم تخليهم عن ثوابتهم المقدسة، وفي مقدمتها الدين الإسلامي واللغة العربية، نعم أن الإسلام هو الذي أعطى للجزائر اسمها ولونها وهويتها، وهو الذي أمد المجاهدين في جميع الثورات، ولا سيما ثورة نوفمبر بروح التضحية والفداء
كتبت دراسة مطولة حول الإمام عبد الحميد بن باديس في العدد الخاص لمجلة الموافقات الغراء التي كان يصدرها المعهد الوطني العالي لأصول الدين، كلية العلوم الإسلامية حاليا، وختمتها بقولي:وخلاصة القول: إن الإمام عبد الحميد بن باديس المسلم الثائر والرجل القرآني شخصية ملتزمة بخطها الفكري، وهو مصلح، صاحب نظرة مستقبلية تنبئ عن إخلاصه لدينه وعروبته، وجزائريته وانتمائه إلى أمة شريفة تعيش في عصره السقوط الحضاري، والغزو الفكري، والاستلاب الطرقي والتخلف الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وهو ذلك “الرجل الذي مد الجسور ومتن الحبال التي ربطت بين جيل عصر الإصلاح والتنوير، وجيل النصر والتمكين ولكن بعد استقلال بلاده الجزائر كعبة المجاهدين قٌطعت الحبال ونٌسفت الجسور” .
فهل نقدر في هذا الزمن الرديء أن ننصف الرجل، ونقرأ دوره العلمي في بناء هذه الأمة، أم علينا أن نسكت، سكوت الجبناء عبيد الدرهم والدينار، الذين ركنوا إلى الأرض، واستسلموا للعبودية، أين نحن من أشواق ابن باديس للحرية، وأين نحن من هذا الرجل الرسالي وقضايا العرب والمسلمين؟
كانت هذه هي الخلاصة، التي ضمنتها فكرة شيخ المؤرخين وكشفه عن المفارقة الكبيرة بين جيل الإمام الشاهد عبد الحميد بن باديس وجيل التمكين،واليوم يغادرنا هذا العملاق الذي هوى الخبير بأبناء فرنسا الاستعمارية والأوفياء من الخدم الذين ساروا في ركاب الاستعمار
ولقد تعدد المتعاونون مع رجال الاحتلال من حيث المهمات التي تكفلوا بانجازها فقد ساروا في ركاب الاحتلال مسيرة طويلة فكان منهم المترجم من الدارجة الجزائرية إلى اللغة الفرنسية، ومنهم من كان يترجم لأسياده زفرات وتنهدات أبناء قومه ومنهم من تكفل بنقل الكتب والمخطوطات العربي إلى اللغة الفرنسية ، بل منهم من أرَّخ لوطنه بطلب من بعض ضباط المكاتب العربية التي كانت تمثل رواد الدراسات الأنثروبولوجية أو رواد علم الاجتماع الاستعماري، ومن هؤلاء الرواد الذين ساروا في ركاب الاستعمار الفرنسي، تكون جيل من النخبة الجزائرية .
ومن الأهمية ذكر الدمار الشامل الذي عرفته الجزائر، وهذا من خلال احتلال ونهب المدن الجزائرية التاريخية، كقسنطينة وعنابة، وبجاية، والجزائر العاصمة ووهران وتلمسان ومعسكر، وإلى غاية 1848 أي عند انتهاء المقاومة الرسمية وجهاد الشعب الجزائري في العقدين الماضيين قبل السنة المذكورة فقدت الجزائر ما يزيد عن 10/100 أي 300 ألف من سكانها كما ذهب إلى ذلك شيخ المؤرخين الجزائريين .
ولعل من حبَّبَ إلينا الجزائر والتدوين في أَدَقِّ خصوصياتنا الشخصية، هو المحتفى به شيخ المؤرخين الدكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله.
لقد كان يشجعنا ولا يزال على الكتابة ونحن في مرحلة الطلب، وقد لا أفي حق الرجل فهو بموسوعته الراقية “تاريخ الجزائر الثقافي” قد بنى للجزائر هرمًا تفتخر به الأجيال، فقد تمثل لي الدكتور سعد الله في همة الرجال الكبار، وحدس المؤرخ الرسالي كهمم إخواننا المصريين، فكل واحد فيهم يرى نفسه قادرًا على أن يكون هرمًا جديدًا يضاف إلى أهرامات مصر الخالدة.
هذه الهمة العالية هل هي التي تدفع شيخ المؤرخين إلى العمل والمشاركة في إعادة عصر التدوين من جديد إلى وطنه الصغير الجزائر خاصة وعالمه العربي والإسلامي عامة.لأنه يدرك حقيقة التاريخ، فنحن نتساءل معه كيف انتصرت علينا قوة “التقدم” كما يسميها الدكتور فارنييه في عمله “الجزائر أمام الإمبراطور”(1).
لعلني لا أبالغ فأرى من خلال تجربتنا التي تزيد عن ثلاثة وثلاثين سنة ونحن نقرأ ما ينتج الأستاذ الكبير سعد الله فأقول إنه المؤرخ الموسوعي، متعدد المشارب والاهتمامات، فقد قرأنا له ما كتب في مجلة الآداب وقد كان شابًّا يافعًا يشارك في التأسيس للقصيدة الحرة، فهو بحسب النقاد من أوائل الشعراء الجزائريين الذين كتبوا القصيدة الجديدة، خارج دائرة القصيدة التقليدية العمودية، كما شاهدنا همته وهو يقوم بتدوين تاريخ الجزائر بداية من 1830 إلى غاية 1945م، بوعي نادر يسابق به الزمن وهذا في عمله الموسوعي “الحركة الوطنية الجزائرية” كما ساهم مساهمة بالغة في تسجيل وتدوين تاريخ الجزائر الثقافي بداية من القرن الخامس عشر إلى منتصف القرن العشرين(1954م).ولعل المصاب الجلل، والعملاق الذي هوى ستتذكره الجزائر في حولياتها، لأنه قام بواجبه كأي رجل شريف خدم أمته.
هل حقق شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله مشروعه؟
هل كانت أمنية شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله أن يكون مؤرخ الجزائر الكبير، وهل استطاع أن يرد على المستشرق الفرنسي الشهير هنري بيريز[Henri Peres] الذي قال إذا كانت تونس لها مؤرخها الكبير أبو العباس أحمد بن أبي الضياف[تـ 1291هـ/1874م] الذي كتب تاريخ تونس الشامل، والمغرب له مؤرخه المتميز وهو أبو العباس أحمد بن خالد السَّلاوي الناصري[تـ 1315ه/1897م]، فإن الجزائر لم تعرف مؤرخًا بحجم هؤلاء الكبار.
أعتقد أن شيخ المؤرخين الذي كان يسابق الزمن من أجل إتمام مشروعه، فقد حقق أمنيته وهو أن يكون للجزائر مؤرخها الكبير الذي كتب تاريخها الثقافي من الفتح الإسلامي إلى نهاية ثورة التحرير المباركة.
أما بقية الأهرامات الأخرى التي تركها شيخ المؤرخين فهي بحق الأرضية العريضة التي يمكن أن تنطلق منها الأبحاث والأعمال الجادة لتسجيل وتدوين تاريخ الجزائر كما كان يتمنى أن يكتبه شيخ المؤرخين رحمه الله.