يظلنا أيها الأحبة شهر رمضان الكريم الذي تظلنا فيه ليلة هي خير من ألف شهر ، إنها ليلة القدر المباركة التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتحراها في العشر الأواخر منه ، ولعل القارئ الكريم يعلم أن سبب اختفائها – بحكمة الله طبعا – سببه مرده إلى التلّاحي وهو شدة الجدال بغير وجه حق ، و قد فُسّر أيضا بالسباب، والاختصام والمماراة فقد روى البخاري في صحيحه عن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ القَدْرِ ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ : إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ ، فَرُفِعَتْ ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ ، التَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ . صحيح البخاري
فلو كان الاختلاف يسيرا بدون مماراة وجدال عقيم لكنا اليوم أدرى بها ولكن حكمة الله تعالى سبقت كل شئ ، وفي ذلك فاليتنافس المتنافسون.
وان من حكم الله سبحانه وتعالى ، أن جعل الاختلاف بين الناس آية كونية ، فالاختلاف عام بين البشر ذكر وأنثى ، عربي وأعجمي ، أسود وأبيض قال سبحانه وتعالى( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ) الروم 22 ، لكن ما أقصده هنا بالاختلاف ليس في الخلقة وأشكالها وألوانها وألسنتها ، إنما أقصد بالاختلاف الديني والعقدي أو الاختلاف الفكري العقلي وكلا الاختلافين جبلين في الجنس البشري ومعنى ذلك أن لا مناص لنا من الاختلاف الذي هو كائن الى أن يرفع الله تعالى الأرض ومن عليها ، ولا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نجابذ هذه الآية الكونية التي قال الله تعالى فيها ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين) هود:118-119]؟ فان صراع الاختلاف بين الناس كائن إلى يوم الدين قال سبحانه ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) يونس99.
ولذلك أشار الله تعالى الى هذا المفهوم وأن كل طائفة و حزب أو صاحب رأي تجده فرح برأيه أو طائفته أو حزبه قال سبحانه (كل حزب بما لديهم فرحون ) الروم 32 . إذا فهذه هي النتيجة الحتمية لسنة الاختلاف الكوني ، أن كل واحد يعتز بنفسه وما تنتهجه وما تحمله ، لذا فان هذا الاختلاف ينتج من مخاضه تبيان الحق من الباطل أو التنوع الفكري الذي من ثماره استنارة العقل والفكر وتطور الابداع قال الله سبحانه ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات 13 . فان التعارف بين الناس واكتشاف طبائعهم ومعارفهم لمجلبة للعلوم ومقارنة الاختلافات فمن كانت حجته معه حصل على الغلبة والإتباع ومن هنا أمرنا الله سبحانه وتعالى بالجدال المحمود مع غيرنا من أهل الكتاب ، فما بالنا إذا كان مع بعضنا البعض.
وان هذا الجدال العلمي يبنى على ثلاثة أصول عظيمة العلم والأدب وعدم التعصب أي طلب الحق .
أما الأولى والثانية فنجدهما في قوله تعالى( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولاهدى ولا كتاب منير ليضل الناس بغير علم ) الحج 8 فالآية أشارت إلى العلم والتخصص في المجال ولعلنا نفرد مقالا آخر في الباب وأما قوله تعالى ( ليضل الناس بغير علم ) فهو التعصب الممقوت الذي أشار له في آية أخرى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) آل عمران 64 فكلمة سواء معناها تعالوا إلى إتباع الحق وعدم المماراة في الباطل .
أما الأصل الثالث وهو الأدب مع المخالف فتجده في قوله تعالى ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) العنكبوت46 فان لم تكن متأدبا مع من خالفك فلا شك انه لن يسمع لك فإشعارك بالأدب معه هو إيحاء لك منه على على مكانته عندك وعلى عدم استصغاره وكذلك من حسن الأدب معه هو إنصاتك بتمعن لأفكاره وآرائه حتى لا تسيء الظن به من جهة ومن جهة أخرى قد يقنعك بكلامه فعدم حسن الأدب خطر كبير في تفويت الكثير من الجزئيات المهمة في الجدال العلمي الذي هدفه ليس التعصب للرأي إنما طلب الحق والعلم والمعرفة فهذا الكلام موجه إلى كل العلوم والاختلافات الموجودة بين البشر ، فهذا هو مقصودي بسنة الاختلاف الذي هو أمر كوني جبلي بين الناس عامة.
أما إذا كان الحال الاختلاف الشرعي الفقهي بين علماء الأمة الإسلامية ، فهو يندرج تحت أصل عظيم من أصول هذا الدين الحنيف ، الذي تناساه للأسف الكثير ممن يحملون على عاتقهم رسالة الدعوة ؟ ألا وهي سنة التنوع.
إن سنة التنوع ؛ معناها ذلك التنوع الذي عمله النبي صلى الله عليه وسلم في أفعالة أو أقواله ، واختلف من بعده الفقهاء ، وأسسوا لاختلافهم مذاهب مبنية على أصولهم التي أصلوها ، ثم اتبعوها بعد ذلك عامة الناس فصار الفقية يلزم الناس على فهم مذهبه للحديث الذي وصله وربما لم يصل غيره من الفقهاء .
إن حركة العلم والتدوين ؛ جعلتنا نكتشف أن ذلك مرده إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينوع في سننه فمرة مثلا كان يقبض ومرة كان يسدل ومرة يشرب الماء جالسا ومرة يشربه واقفا ومرة يجلس جلوس الاستراحة في الصلاة ومرة لا يجلس والى غيرها من الأمثلة التي لا تحصى ولا تعد وهي تغلب على الفقه الإسلامي ، والى هذا المفهوم أشار النبي عليه الصلاة والسلام حينما سمع ثلاثة شبان كل واحد منهم هم أن يفعل شيئا في حياته فقال احدهم إني لا أتزوج النساء وقال الآخر قال أصوم الدهر ولا افطر والآخر عزم أن يقوم الليل كله فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم على فعل ذلك وأرشدهم أنّ فعله متنوع فهو يصوم ويفطر ويتزوج النساء ويقوم الليل وينام ثم قال عليه الصلاة والسلام ( فمن رغب عن سنتي فليس ) مني أخرجه البخاري ومسلم
وهذه السنة أي سنة التنوع تختلف عن سنة الاختلاف ، بأنّ كلا المتجادلين منهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتمس ، فكلا منهما يريد إحياء سنة النبي عليه السلام ، اللهم إلا إذا كان الدليل الذي استند عليه المخالف ليس له أصل شرعي يستند عليه ، وحتى في باب الأصول فان هنالك أصول مجمع عليها وأصول مختلف فيها ، إذا فالحاصل أننا لن نخرج من دائرة الاختلاف ، أما الأمور المجمع عليها فلا يحل علينا نتجاوزها والتي سماها الله تعالى بحدوده قال سبحانه ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ النساء)13 وان هذا الاختلاف لرحمة بين المسلمين إذا تعاملنا مع من خالفنا بحسن الأدب بكل ما يحمله الأدب من أخلاق كثيرة والا صار نقمة لنا كما هو حاصل بيننا اليوم من فرقة شديدة بين المسلمين.
إن سنة الاختلاف وسنة التنوع تحكمهما معا الضوابط الثلاثة ، وينتج منهما مجتمع أقر بهذين الأصلين العظيمين ؛ مجتمع تسوده المحبة والإخاء ، وما لا يِؤتى بالجدال يِؤتى بالأدب ، فان حسن الخلق والمحبة لجام تلجم به المخالف قبل الصديق .

بقلم:أحمد موسى إمام أستاذ لدى مسجد باريس الكبير فرنسا

.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *