كرمت جريدة الحوار المجاهد العربي الزبيري، وذلك بحضور وزير الثقافة عز الدين ميهوبي ونخبة من مفكرين ومؤرخين ومثقفين.
كما عرف التكريم العديد من المداخلات،من بينها مداخلة السيد محمد بوعزارة جاء فيها:
بقلم: محمد بوعزارة
“من الصعب في هذه المساحة الممنوحة لي أن أتحدث عن رجل يسكنه التاريخ ــ و في القاعة أساتذة أجلاء و طلبة أوفياء و زملاء ــ عرفوا الرجل قبل أن أعرفه بأعوام، و من الصعب كذلك أن أتحدث عنه مناضلا لم تأت به السياسة للنضال ، بل جاء به الجهاد و حب النضال و ليس نضال السياسة من أجل السياسة .
النضال في السياسة و النضال من أجل التاريخ متلازمتان تسكنان هذه القامة النضالية و الفكرية رغم عاديات الزمن.
عندما نعرف كيف سعى سي العربي الزبيري و هو في ريعان شبابه لفتح فرع للتاريخ بجامعة الجزائر، ندرك كم أن الرجل كان ذا فكر استباقي بمعرفة قيمة التاريخ في حياة الأمة .
الدكتور العربي الزبيري يعترف أنه بالرغم من المحاولات الجادة التي قام بها الدكتور سعد الله و كذلك زميله في الدراسة بجامعة الجزائر د ناصر الدين سعيدوني و غيرهم من أساتذة التاريخ للتأسيس لمدرسة وطنية للتاريخ ، فإننا لم نؤسس بعد هذه المدرسة ، و أننا لم نُفْلح حتى في تحديد المصطلحات بكيفية علمية دقيقة ، إذ ما يزال البعض لا يفرق بين الثورة و الحرب ، و بين الاستقلال و استرداد أو استرجاع الاستقلال و السيادة الوطنية .
و سأسرد عليكم باختصار جزء من قصة نضاله لإدخال مادة التاريخ للجامعة الجزائرية كما رواها لي شخصيا:
توجه سي العربي ذات يوم من منتصف ستينيات القرن الماضي إلى عميد جامعة الجزائر الراحل بن شنب و قال له : أليس من العار أن تبقى جامعة الجزائر لا تُدرِّسُ التاريخ بالعربية ؟.
و بالرغم من تحجج العميد بعدم وجود لا للطلبة و لا للأساتذة ، فإن سي العربي أصر على أن هناك أستاذا يمكن له أن يقوم بتدريس الطلبة ، و أنه سيأتي هو بنفسه بمجموعة من الطلبة لدراسة التاريخ .
و هكذا أقنع عددا من زملائه و أصدقائه من بينهم محمد الميلي بأن يكونوا طلبة في التاريخ رغم أنهم كانوا حاصلين على شهادات جامعية ، و البعض لم تكن لهم الرغبة أصلا في دراسة التاريخ.
و هكذا نفَّذ سي العربي خطته ، إذ تم افتتاح فرع لدراسة التاريخ بجامعة الجزائر رغم كل العراقيل التي صادفها .
إنني لن أتحدث هنا عن مؤلفاته التي تجاوزت الأربعين مؤلفا خصوصا في التاريخ ، و لا عن بحوثه و محاضراته، حيث يجوب المدن و القرن و يسافر حتى خارج الوطن متحديا المرض الذي لم يقعده عن البحث و تقديم تاريخ الجزائر المجيد في حلة وطنية تليق به .
العنصر الثاني هو النضال السياسي ..
النضال عند سي العربي ليس ارتزاقا و لا انتهازية و لا تسلقا للمناصب ، و قد عُرض عليه منصب سفير في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد فامتنع عن قبوله ، لأنه ليس من طينة هؤلاء المتسلقين و الانتهازيين و الباحثين عن التموقع المغشوش و المال المغشوش و المنصب المغشوش ، و الخطاب الضحل المغشوش.
النضال عند سي العربي اقتناع بمبدء نابع من الفلسفة التي تضمنها بيان أول نوفمبر و نضالات حركة الوطنية منذ بداياتها .
لقد ترك هذا المجاهد في صفوف جيش التحرير الوطني و الذي عرف مرارة السجن و هو ابن الرابعة عشر عاما الجيش الوطني الشعبي عقب استعادة الاستقلال الوطني مباشرة، و اختار النضال في صفوف جبهة التحرير الوطني.
لم يكن سي محمد العربي يعرف الراحل محمد خيضر الأمين العام للمكتب السياسي رحمه الله الذي سأله عن سبب اختياره العمل في صفوف الحزب ، فقال له سي العربي :
إن ذلك يرجع إلى سماعي لمحاضرة لك جعلتني أقتنع أن أعمل في الحزب إلى جانبك .
و لما سأله خيضر ثانية : و لكن هل لديك تجربة سياسية من قبل ؟
اعترف سي العربي لخيضر أن تجربته في السياسة تساوي الصفر !!
و عندها قال له الراحل خيضر : سأقبلك في الحزب فورا بشرط واحد ، و هو أن تواصل دراستك، و تأكد أنني لن أحاسبك عن العمل ، بل سأحاسبك عن الدراسة.
كان خيضر يؤمن بأنه لا وجود لدولة قوية دون حزب قوي ، و كان يريد أن يجعل من الحزب مشتلةً للأفكار ، لأن الجامعة في رأيه هي القوة الأساسية التي تصنع هذه الأفكار و البرامج .
و إذا كانت علاقة الدكتور الزبيري بالنضال في الجبهة بدأت مع الراحل خيضر، فإنها أخذت منحى المد و الجزر مع مختلف القياديين الذين توالوا على تسيير الحزب .
إذ لم يكن سي العربي في نضاله إمعة ، النضال عنده هو ممارسة النقد البناء و ليس الصمت أو الذوبان في الآخر مهما كان حتى لو كان صديقا حميما كما كان حاله مع مساعدية ، النضال عنده و عند المناضلين الشرفاء هو الإسهام في تغيير الواقع و بث الأفكار البناءة و الاستشرافية لفائدة الصالح العام و الوطن ككل و ممارسة السياسة بأخلاق.
و ليسمح سي العربي أن أسرد عليكم واقعة بخصوص علاقته بالنضال و بالراحل محمد الشريف مساعدية التي تعود إلى أفريل 1964 ، فقبيل انعقاد مؤتمر الحزب ذلك العام دعا محمد الميلي الذي كان وقتها إطارا بالمجلس الوطني كلاً من مساعدية و محمد العربي الزبيري إلى تناول العشاء في بيته .
و لما طلب مساعدية من الميلي أن يُعد له ورقة ليستعين بها في الكلمة التي سيلقيها أثناء ذلك المؤتمر، قال له الميلي بأنه لا أحد أقدر على ذلك من العربي الزبيري .
ابتسم مساعدية، ثم تأمل في وجه محمد العربي الذي كان قد بلغ الـ 23 من العمر حينها، و راح يهمس في أذن الميلي بصوت خافت متعجبا :
هذا “البزويش” ؟ !!
سمع محمد العربي تلك العبارة التي كتمها في صدره .
و لكن الراحل مساعدية عندما قرأ الورقة التي أعدها سي العربي عن الحزب راح يقول للميلي : و الله عندك حق .
و منذ ذلك اليوم تولدت صداقة عميقة بين الرجلين لم تنقطع إطلاقا ، إلى حد أن أحد قيادي الجبهة و هو الشريف سيسبان كان يصف سي العربي الزبيري بأنه “أسبرين مساعدية”، و أنه لا أحد يقدر على تهدئة مساعدية عندما يغضب سوى العربي الزبيري .
هناك قصص كثيرة عن علاقاته مع العديد من الشخصيات الوطنية و الدولية لا يكفي المقام هنا للتطرق لها .
لكن المهم في كل هذا أن سي العربي مناضل صلب لا يعرف أنصاف الحلول و لا يجامل أيًّا كان خصوصا عندما يتعلق الأمر بمسائل تاريخية و نضالية كيفما كان شكلها وطنية كانت أو إنسانية ، ثقافية كانت أو سياسية أو فكرية .
أو لم يقل للعقيد القذافي و هو يحاوره عام 1999 : يا سي معمر بأي حق تبذر أموال الشعب الليبي هكذا ، أنت مستبد .
و قد تدخل وقتها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ليشير لسي العربي بأن القذافي ضيف علينا و أنه من غير اللائق إطلاق تلك العبارات الجارحة بحقه ، و عندها تدخل القذافي قائلا للرئيس بوتفليقة و الله عنده حق سيادة الرئيس.
هذا هو سي العربي الزبيري كما عرفته رجل يسكنه تاريخ الجزائر، و يسكنه النضال غير المغشوش ، مثلما يسكنه القلم و حب الجزائر”.