بقلم : عزيز بوباكير
بعد نجاح الأمير في إخماد لهيب الفتنة الطائفية في دمشق سنة 1860 وصلت أصداء مقاومته للاِحتلال الفرنسيّ إلى روسيا البعيدة. وكافأته على مأثرته روسيا بوسامها الوطني. وساهم في إطلاق سراح الأمام شامل بتوسطه لدى نابوليون الثالث. وكتب عنه العديد من الرحالة الروس منهم،ايخانفالد ودوختوروف وكوراباكين…
هذا عن الأمير كما رآه الروس في القرن التّاسع عشر. أمّا في العهد السوفييتيّ، فإنّ اِهتمامهم به لم ينقطع أبدا. فلا يخلو كتاب عن تاريخ الجزائر من ذكر الأمير عبد القادر وكفاحه البطوليّ. وقد اِنعكس هذا الاِهتمام تحديدا في الدراسات العلميّة المخصّصة لسيرة الأمير ومقاومته ودولته. وتعتبر الباحثة خميلونا أكبر مختصة في الأمير عبد القادر. فقد كرّست جهدها العلميّ لدراسة أشكال وبنى الدولة الجزائريّة في عهد الأمير عبد القادر، ومقاومة هذا الأخير للتوسّع الاِستعماريّ الفرنسيّ. ونشرت منذ 1962 عدّة مداخلات ومقالات في هذا الموضوع، كما أفردت كتابا كاملا لجهود الأمير من أجل إرساء دعائم دولة وطنيّة حديثة، وصدر هذا الكتاب عام 1973 بعنوان: “دولة الأمير عبد القادر الجزائريّ”. وإلى جانب هذا الكتاب تجدر الإشارة إلى دراسات هامة لنفس الباحثة هي: «السّياسة الداخليّة للدولة الجزائريّة في فترة الكفاح الشعبيّ التّحرريّ ضدّ المستعمرين الفرنسيين» (1962)، و«حول مغزى الدولة الجزائريّة التي تزعّمها الأمير عبد القادر» (1963) و«الدولة الجزائريّة في عهد الأمير عبد القادر وتقييم التدوين التّاريخيّ الفرنسيّ لها في القرنين التّاسع عشر والعشرين» (1974).
وتكتسي سيرة الأمير عبد القادر التي وضعها يوري ستيبانوفيتش آغانيسيان أهميّة بالغة في اِهتمام الروس ببطلنا الوطنيّ. وهي تمثّل بحق، جهدا علميّا رفيعا في دراسة الاِستشراق الروسيّ لتاريخنا ورموزه. وتعتبر إلى جانب كتاب “حياة الأمير عبد القادر” لشارل هنري تشرشل من أفضل السيّر وأوفاها عن الأمير. وممّا يزيد في قيمة هذه السيرة هو صدورها عن الدار العريقة “الحرس الفتيّ” التي أسّسها عام 1922 الكاتب الروسيّ الشّهير مكسيم غوركي، والتي تخصّصت منذ 1933 في إصدار سلسلة هامة عن عظماء ومشاهير العالم بعنوان “حياة المشاهير”. ولم تدرج هذه الدار في حدود علمنا سوى اِسمين عربيين في هذه السلسلة هما الأمير عبد القادر (سنة 1968) واِبن بطوطة (سنة 1983).
وتقع هذه السيرة في 172 صفحة من القطع المتوسط، وهي مزيّنة بأكثر من 50 صورة للأمير ورفقائه في السّلاح ولتحفه ولشخصيّات تاريخيّة معاصرة له ولمواقع حربيّة معروفة. وقد اِعتمد يوري آغانيسيان في كتابه هذه السّيرة على مصادر ووثائق نادرة واِستعمل مراجع عديدة باللّغات الفرنسيّة والإنجليزيّة والروسيّة.
وتنقسم السّيرة إلى أربعة فصول. الفصل الأوّل خصصه المؤلِّف لطفولة الأمير وتربيته والبيئة التي نشأ فيها مع ربط كلّ ذلك بالوضع السّياسيّ والاِجتماعي لتلك الفترة. وعالج في الفصل الثاني الوضعيّة العامة للبلاد قبل الاِحتلال وأثناء الاِحتلال ومقاومة الشعب الجزائري له. أمّا الفصل الثالث فقد أفرده المؤلِّف للفترة الممتدّة من معاهدة التافنة إلى اِستسلام الأمير عبد القادر. وفي الفصل الأخير يتحدّث صاحب السيرة عن حياة الأمير في منفاه بدمشق واِستقبال أهل الشام له، ومكانة الأمير بينهم ومأثرته في إخماد لهيب الفتنة الطائفيّة بين الدروز والموارنة، دون أن ينسى خصال الأمير وأخلاقه الرفيعة وتأملاته الصوفيّة واِهتمامه بعلوم الدين ونظمه الشعر.
إنّ كتاب “عبد القادر” ليوري آغانيسيان يمثل عصارة الاِهتمام العلميّ بالأمير في الدراسات الاِستشراقيّة الروسيّة. وهو في رأي الدكتور عماد حاتم من «الكتب التي لا تستوفي حقّها إلاّ الترجمة الكاملة، لأنّه لا يشمل على فكرة واحدة يمكن تلخيصها في صفحة صغيرة بل يتحدّث عن حياة غنيّة حافلة كان كلّ فصل فيها تجربة إنسانيّة خالدة، حافلة بالمعاني. إنّه صفحة مشرقة في التّاريخ العربيّ والإنسانيّ ساهم في إحيائها إنسان من بلاد بعيدة، وضع فيها الكثير من روحه وتعبه وجهده، وصاغها قدوة يحتذي بها كلّ إنسان حرّ مؤمن يمثّل الحق والعدالة والكرامة الانسانيّة».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *