إنّ حاجتنا إلى التسامح تساوي حاجتنا إلى الحياة؛ إذ إنّ حياتنا تتحول إلى جحيم بغياب هذه القيمة كمفهوم يجمع الإنسانية فيما بينها، إنّه التحرر من الرغبات القاتلة والمتوحشة التي ليس ثمة ما يشبعها، لتصبح سيداً على نفسك بالوعي الذي لا يجعلك تخضع لقوى خارجية أيدلوجية كانت أم دينية متطرفة، تتحكم في رغباتك وتتلاعب بميولك وتصوراتك، إنّك مملوء بالشغف ومقبل على العطاء بلا شروط.

ثمة متاريس تقف أمام التسامح تتعلق بتكويننا الداخلي كبشر؛ إذ لا يمكننا أن نكون متسامحين ما لم نواجهها بوعي أعلى منها، يحررنا من سطوتها، والتخلص منها يعد شرطاً أساسياً للوصول إلى هذه الغاية:

نزعة الحكم والإحكام:

إننا في حالة نزوع دائم إلى أن نحكم قبضتنا على الآخرين بالحكم عليهم، ومن ثم إحكام القبضة عليهم، بتصنيفهم ووضعهم في قالب لا يمكن أن نقبله لأنفسنا، ويتحوّل حكمنا لهم إلى أبدية تحيط بهم من وجهة نظرنا؛ بل إننا نتسرع في الحكم دون أن نتعرف بما يكفي على الآخر، ونعلق على الأحداث دون أن نفهمها، إنّنا في عجالة من أمرنا في أن نرتب العالم الكبير بحسب تصوراتنا الصغيرة.

حياتنا تتحول إلى جحيم بغياب التسامح كمفهوم يجمع الإنسانية فيما بينها

يُحكى أنّ شاباً جاء إلى ذي النون المصري، الصوفي المشهور، وقال له: “إنّ الصوفيين على خطأ، وليسوا أهل عبادة”، إلى جانب الكثير من الكلام الذي قاله، نزع ذو النون خاتماً من إصبعه، وأعطاه إياه طالباً منه أن يذهب ويبيعه إلى تجار أكشاك السوق، مقابل قطعة ذهبية على الأقل، وعندما ذهب لم يعرض عليه التجار الكثير، ولم يحصل إلا على قطعة فضية واحدة، فعاد أدراجه إلى ذنون، وأخبره بذلك، فطلب منه ذو النون أن يذهب بالخاتم إلى صائغ، وينظر كم سيدفع، فعرض الصائغ ألف قطعة ذهبية، فدهش الشاب، فقال له ذو النون: ها أنت ترى الآن أنّ معرفتك بالتصوف والصوفيين أشبه بمعرفة تجار الأكشاك بالجواهر النفيسة، فإن رغبت بتقييم الجواهر فعليك أن تصبح صائغاً.

وهكذا، بينما نضيع وقتاً طويلاً في أحكامنا، ثمة من ينغمسون في تجاربهم وحياتهم، ونحن نحكم على الأمور بينما نقف على هامشها، ونحدد من معنا ومن ضدنا من خلال أحكامنا، ومن المؤمن ومن الكافر بيننا، ومن سيكون من الفرقة الناجية، ومن سيهلك منا، وهذه التصورات التي نشكلها بمثابة قنبلة موقوتة أمام حصنالتسامح الاجتماعي والثقافي، الذي يضمن تعدديتنا واعترافنا ببعضنا، الذي ينتج عنه العدالة؛ إذ لا يترتب على الاختلاف الفكري أو الديني عمل إقصائي أو ظلم حقوقي في المجتمع الواحد.

ثمة متاريس تقف أمام التسامح ولا يمكننا أن نكون متسامحين ما لم نواجهها بوعي أعلى منها

عندما يقول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، نعلم خطورة أن نحكم على الأمور بجهالة، وبعمى بصيرة، وقلة معرفة بها؛ فالآية لم تكن تعني أبداً أن نتوقف عن البحث والمعرفة فيما نجهل؛ بل هي تشجع ذلك بعدم الوقوف على باب الجهل وإلقاء الأحكام والآراء يميناً ويساراً.

جميعنا يعرف أنّ قاتل المفكر المصري فرج فودة، عندما سئل في المحكمة عن أسباب ارتكاب هذه الجريمة، قال ببساطة: “لأنه علماني”، ولم يكن يعرف ما تعنيه الكلمة سوى ما يتردد من جهل حولها؛ إنّها ببساطة تساوي الكفر بالنسبة إليه؛ إذ لم يكن مهتماً ليعرف بنفسه، لقد وقف على هامش الكلمة، وحكم بالموت من خلالها، وهنا تكمن خطورة أن نحكم من خلال وعينا المحدود على المفاهيم والأفكار.

الأنا “الإجيو”

يزهر التسامح وتتفتق بذرة الحب في الحياة، كلما ماتت “الأنا” التي تحتكر لنفسها التفوق، وتعتقد في ذاتها الكمال المطلق والمعرفة اللامحدودة، وتكون أكثر بشاعة عندما تصدر عنها أحكام قاتلة بشأن الآخرين.

يحكى أنّ رجلاً ذهب إلى الحج، ثم عاد إلى القرية، وأخبر أخاه بما شاهده من قلة تدين عند الآخرين، ويحمد الله على أنّ بلدهم الأكثر تديناً، وبالنظر إلى قريتهم، فإنّها الأكثر تديناً في البلد، وبالنظر إلى عشيرتهم فإنّها الأكثر تديناً في القرية، وبالنظر إلى عشيرتهم فهو وأخوه الأكثر تديناً في العشيرة، لتضيق الحلقة حتى يقول: وبالنظر إليك أجدني أكثر تديناً منك.

يزهر التسامح وتتفتق بذرة الحب في الحياة كلما ماتت الأنا التي تحتكر لنفسها التفوق

وهكذا تضيق حلقة التعددية الدينية عندما ترتبط الحقيقة ارتباطاً كلياً ونهائياً بالأنا؛ إذ تعرف نفسها من خلالها، وتعرف الحقيقة من خلال نفسها، وهكذا تتماهى الأنا مع الأفكار والرؤى حتى تحتكرها، وهكذا يفعل الكهنة ورجال الدين، والذين يتصدرون الفتوى، ويتبعهم الآخرون، وبالعودة إلى قصة قاتل فرج فودة؛ نجد أنّ دمه كان سهلاً ومباحاً من عدة شخصيات دينية تصدرت الفتوى، وخضع لها عقل القاتل، فكانت بالنسبة إليه هي الدين نفسه.

بقلم:جهاد حسين

باحث في الفكر الإسلامي وأصول المعرفة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *