تداول نشطاء موقع التواصل الإجتماعي “ الفيس بوك ” نصّ رسالة معلم ألقاها في حفل تكريمه من قبل أسرة التعليم التي ينتسب إليها .. هذه الكلمة المؤثرة جداً تركت في نفوس الحاضرين تأثيرا كبيرا بحيث صرح العديدون أنهم ذرفوا الدموع بين ثنايا سطورها..
حضرات السادة و السيدات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
و بعد :
يشرفني كثيرا أن أحظى اليوم بشرف هذا الجمع المبارك حولي الذي باستثناء اليوم الذي صدمتني فيه سيارة لم أعرف سائقها، و أنا أركب دراجتي الهوائية متجها فيه إلى المدرسة التي أشتغل فيها معلما، لم أكن موضوع تجمهر قبله ولا بعد، ولا بأس اليوم من شكر مديرية التربية التي تواضعت أخيرا، لتنصت إلى هذا الشخص الذي لا تعتبره سوى اسم من أسماء النكرة.
أنا عبد المجيد (…)، البالغ من العمر ٦٠ سنة، والمتزوج واﻷب لأربعة أطفال من أبناء هذا الوطن، أصرح أنني أرفض هذا التكريم الذي تفضلتم وتكرمتم بإقامته لشخصي..
نعم، لست في حاجة أيها السادة إلى تصفيقاتكم، وأنتم تحتجزونني هذا المساء داخل هذه القاعة كبهلوان عجوز، تعلقون على صدره أوسمة رخيصة، وتغدقون عليه بكلمات معلبة معدة بشكل رتيب..
هل غاب عن ذهنكم أن هذا الجسد الضامر المتهالك، تسكنه روح يعيش بها، وذاكرة طالما اختزنت ويلات النضال، وظلمات الشقاء والبؤس الذي أرادته لنا وزارتكم ؟
كنت سأفرح بتكريمكم لي، يوم وصلت على ظهر حمار الى احد المناطق النائية التي عينت بها ذات ليلة من ليالي السبعينات الباردة، فلم أجد سكنا أقطن به، ﻷلوذ بمسجد أياما أبيت فيه قبل أن يحتضني بعض سكان القرية بكرمهم..
كنت سأفرح بتكريمكم لي، وأنا أشتغل سنتين بدون راتب، في انتظار اﻷجرة، حتى اشتكاني البقال إلى مركز الشرطة لكثرة ديوني..
كنت سأفرح بتكريمكم لي، وأنتم ترسلون إلي مديرا، يجتهد فقط بتبليغكم أيام عجزي ومرضي، وموافاتي بالاستفسارات، وإحصاء كل كبيرة وصغيرة علي، دون أن يمدني يوما بتنويه أو تشجيع لقاء كدي وجدي في سبيل تحصيل التلاميذ..
كنت سأفرح بتكريمكم، يوم لدغني عقرب، وأنا تحت سقف مهترئ قرب المدرسة، أستجلب النوم واﻷحلام البسيطة، ﻷنسى بها الواقع الذي شكلتموه لي..
كنت سأفرح بتكريمكم، يوم انقطعت عني اﻷجرة سنة ونصف، إثر خطإ جناه علي المدير، جراء تقاعسه في إرسال مراسلة، كلفتني إرسال زوجتي لتشتغل خادمة ببيوت المدينة، حتى نجد ما نقتات به نحن وأبناؤنا..
كنت سأفرح بتكريمكم، وأنت تبعثون إلي مفتشا ببذلة و ربطة عنق أنيقة، ليسخر من أحوالي، وليحاسبني على تطبيق مستجدات التدريس، داخل فصل طاولاته من مخلفات الدكتاتورية كما تدعون، وحيطانه آيلة للسقوط على رأسي ورؤوس تلاميذي..
كنت سأفرح بتكريمكم، ذات ليلة كانت ستقضي علي فيه شمعة داخل مسكني، بعدما شبت ألسنة اللهب في أغطيتي الحقيرة..
كنت سأفرح بتكريمكم، وأنا أدرس خمسين تلميذا داخل فصل واحد، بدعوى التقشف وضعف التخصيصات وما إلى ذلك مما تجتهدون فيه للرد على مطالبنا ومطالب الشعب..
كنت سأفرح بتكريمكم، يوم سقطت فيه مغمى علي، إثر مرض مزمن، بعدما ضاق السيد النائب بمراسلاتي المرفقة بملف طبي مصادق عليه من قبل وزارة الصحة..
كنت سأفرح بتكريمكم، وأنا أشارك كل سنة، بعد عقود قضيتها مرابطا بجبال شمالنا الحبيب في حروبكم..
كنت سأفرح بتكريمكم، ولوائح الترقية تطالعني كل سنة بجدول خال من اسمي..
كنت سأفرح بتكريمكم، وأنا أشتغل جميع الحرف داخل مدرستي، تارة حلاقا يحلق رؤوس تلاميذي، وتارة منظفا أجمع فضلاتهم وقمامات الساحة، وتارة بناء أو صباغا أعتلي السلالم لمناشدة جدران المدرسة حتى لا تباغتني يوما وأنا أشتغل بينها..
نعم، أيها المحترمون.. كنت سأفرح بهذا التكريم، خلال تلك السنوات المديدة المريرة التي خلفت ما خلفت على تجاعيد وجهي وعظام جسدي وأكوام مكدسة من اﻷحزان داخل صدري المنهك بالربو والسعال اﻵن..
ولم يكن يزيدني إصرارا وتمسكا بالحياة، غير شرطي يستوقفني بالطريق مذكرا إياي أنه كان ذات يوم أحد تلاميذي، أو ممرضة لم تنس جهدي معها وهي تلميذة، أو…
لكل هذه اﻷسباب أيها السادة، أعتذر عن قبولي هذا التكريم هذه الليلة، وأطلب منكم فقط أن تفسحوا لي طريقا ﻷخرج من هذه القاعة التي خنقتني – أنا المعاق ذا العكازين- وأنصرف إلى حال سبيلي، مستيمحكم عذرا على اﻷخذ من وقتكم لسماع أساطير شيخ في أراذل عمره..
والسلام عليكم ورحمة اللـه .