أي مسافة تفصل الثورة عن الدولة ؟ هل لازالت الثورة الإيرانية المتحكم في مسيرة الدولة الإيرانية ؟ ماذا تبقى من الثورة في دهاليز السياسة ودواليب الحكم ؟ ما هو المعيار الذي يحكم للدولة او عليها ؟ أين المسموح في حركة الدولة وغير المسموح في عرف الثورة؟ الحصار والحرب الخارجية والداخلية هل حرفت الثورة وغيرت مهمات الدولة..؟ ام أن الثورة حافظت على سماتها وأدواتها واستطاعت ان تكرس على الأرض ضمانات استمرارها؟ أين انحنت الدولة للعاصفة؟ وهل أنقذت الثورة الدولة من الانحراف؟ ما الهامش الذي تحركت فيه الدولة بعيدا عن نقاء الثورة وصفائها..وما هي ضمانات التصحيح؟
الحديث هنا يفرق جيدا بين الثورة الإسلامية في إيران والدولة الإيرانية الحالية، فلسلامة الرؤية وصحة التحليل لابد من القول بأن الثورة الإسلامية في إيران انطلقت بجملة أفكار وشعارات وأهداف وطرحت رؤية للصراع الكوني وحددت خطوطا للاصطفاف السياسي، وحاولت ان تكرس رؤيتها في الواقع.. ولم تكن الثورة الإيرانية فقط على النظام الشهنشاهي وفلسفته وارتباطاته السياسية والاقتصادية بالنظام الاستعماري الغربي ومهماته في المنطقة انما هي أيضا ثورة داخل الفكر الشيعي التقليدي على أكثر من مستوى، بل لعل هذا هو الأساس والأعمق والأخطر، حيث أخرج الإمام الخميني الشيعة من التقوقع المذهبي الطائفي الى امة الإسلام بوسعها، رافضا أي حدود طائفية بين السنة والشيعة، معتبرا أن من يثير النعرات المذهبية والتناحر الطائفي إنما هو الشيطان وأتباعه من المنافقين وتصدى بذلك لتيار “الحُجّتية” الذين يرون في أي تقارب مع المسلمين السنة مضيعة للطائفة والمذهب وتنازلا عن أفكارهم وعقائدهم.. طارد الخميني وتلامذته التيار الصفوي وأتباعه وتيار “الحجتية” وشيوخها وفيهم مراجع كبار كآية الله شريعتمداري وآية الله شيرازي ومن يقلدهم.. كما انه رفض ان يظل الإسلام منشغلا بالحيض والنفاس وأمور العبادات وحرر الإسلام من ان يكون مطية للاستعماريين الغربيين ضد الشيوعية او مطية الحكام الظالمين في استعباد الشعوب وأصر ان يكون العالم الفقيه بأحكام الإسلام وبشؤون الدنيا هو الحاكم وولي أمر الناس، فأعاد بذلك الشأن كله الى صدر الإسلام متخذا من النظام السياسي الإسلامي العام “نظام الخلافة الراشدة” مرجعية لتفكيره حول ضرورة الحكم الإسلامي كما جاء في كتابه المتفرد “الحكومة الإسلامية” ملغيا أحكام انتظار المهدي كما هو في فكر الشيعة واعتبر الانتظار عن القيام بواجب الحكم الإسلامي أسوأ من نسخ الإسلام، ومتجاوزا سلبية الفكر السياسي السني الذي يسود أوساط كثيرين في مرحلة التردي في السمع والطاعة للحاكم الطاغي الظالم، كما انه اعتبر وحدة الأمة أساسا وشرطا لصحة الإيمان وصدق الانتماء إليه .. وعلى الصعيد السياسي اعتبر ان العدو الأكبر يتمثل في الادارات الأمريكية المتلاحقة بالإضافة للإدارات الغربية الاستعمارية لما تقترفه من عدوان ضد الأمة الإسلامية بحروبها المتواصلة ونهبها ثرواتها.. واعتبر ان إسرائيل غدة سرطانية لابد من اجتثاثها.. واعتبر ان وحدة المستضعفين في الأرض ومواجهتهم ضد المستكبرين هي الدائرة الثانية بعد وحدة الأمة الإسلامية لمواجهة عتو الأنظمة الاستعمارية الغربية.. وخاض معركة المفاهيم السياسية بدقة وقوة وحزم، فتجمعت له منظومة مفاهيمية واضحة تميز بها عمن سواه في جمع العلماء المسلمين وينبغي هنا الإشارة الى الانفتاح الواسع الذي تحلت به هذه المنظومة على الفكر الإسلامي المعاصر داخل الأمة مستفيدة من التطور الفكري الإسلامي انطلاقا من السيد جمال الدين الأفغاني ورشيد رضا وسواهم..
هذه هي مرجعية الثورة الفكرية والسياسية وهي التي نشأ على ضوئها تيار ثوري سياسي واجتماعي واسع في إيران من مثقفين وعلماء دين كآية الله مطهري وبهشتي وصديقي ومنتظري ومشكيني وعلي شريعتي وعلي خامنئي وعلى رجائي وآخرين كثيرين تميزوا بكل هذه المنظومة الفكرية والمفاهيمية وقادوا حملة واسعة من التثقيف لتصحيح الأفكار والمفاهيم، متصدين للطائفية والتخلف والمقولات الفاسدة التي تخرب وحدة المسلمين وافكارهم وتسيء إليهم والى رموزهم.. وتعرض هذا التيار الى عمليات اغتيالات واسعة طالت العشرات من رموزه، وعلى رأسهم بهشتي رئيس البرلمان ورجائي رئيس الجمهورية ومطهري منظر الثورة وناظم أفكارها الفلسفية والاجتماعية وصديقي المجتهد الكبير في تفجيرات وقتل بشكل جنوني.. وهكذا تكاملت الثورة برؤية ومعيار محتكمة الى منظومة مفاهيمية مدققة تماما لا تحيد عنها.. فاستدعت بذلك غضب الادارات الأمريكية والغربية وغضب الذين يبغونها عوجا وينفذون رغبات الغربيين في بلاد العرب والإسلام.. وكانت هذه المنظومة هي التطور الأعظم.
وإيران الدولة هي الحكومات المتتالية والسياسة الخارجية والداخلية المتلاحقة ومؤسسات الدولة المتجددة والمتبدلة والمتغيرة.. إيران الدولة أجهزة الأمن والحرس الثوري والمصانع والتجارة والاقتصاد والعمل الدبلوماسي والسياسي.. إيران الدولة العلاقات والمصالح والدور الإقليمي والدولي.. إيران الدولة الحسابات الدقيقة والتخطيط والتحسب والاختراقات والتحالفات وأنصاف الحلول أحيانا.. ويرى البعض ان إيران الدولة تقع بين المرجعية الفكرية للثورة وبين مصالح الآنية للشعب الإيراني والثورة، فهي حسب هؤلاء لم تستطع الالتزام تماما بثوابت المرجعية الفكرية وقدمت تنازلات هنا او هناك لكي تنجو بالثورة وبالشعب من حصار كاد ان يخنق البلد وشعبها ويقضي على المشروع الإسلامي الإيراني تماما ولعل هذه التنازلات طالت كثيرا من المسائل المهمة في كيفية ادارة الشأن الداخلي في ظل هجوم اعلامي وثقافي مركز من قبل الاعلام الغربي والتابع له حيث بلغت محطات التفلزة والاذاهة الموجهة ضد ايران اكثر من 45 محطة..
هنا تتضح لنا ملفات كبيرة أمام إيران،، وهي ملفات ملغمة داخلية وخارجية، فعلى الصعيد الداخلي كانت المسافة بين الدولة والشعب يعتريها احيانا توتر واضطراب وكانت هناك العديد من الملاحظات حول تسيير العلاقة بين الناس والدولة على صعيد الحريات والشفافية .. صحيح ان التضخيم الاعلامي والتشويش والتشويه بالغ كثيرا في حربه الان انه كان من الواضح ان هناك اصوات تطالب باجراء تعديلات وتصحيحات لتقريب المسافة بين الناس والدولة بمحاربة مظاهر التفلت والانغلاق والامر له علاقة ايضا بموضوع البطالة وتحسين شروط المعيشة والتي عقدتها ظروف الحصار والعقوبات الغربية وهنا لابد من الاارة الى الجهود العملاقة التي قامت بها الدولة على صعيد بناء مؤسسات قوية تحمي البلاد وتضع البنية التحتية المهمة لاقتصاد غير تابع على الصعيد الصناعي والزراعي والدواء وفي هذا المجال تكون الدولة الايرانية حققت اكثر مما يتوقع لها في ظل ظروف استثائية.. وعلى الصعيد الخارجي ملف العراق وملف سوريا وملف لبنان وملف افغانستان والملف النووي.. ولابد من توضيح ان التعامل مع هذه الملفات لم يأت في سعة من امر ايران، انما جاء مرفوقا بحصار خانق لايزال معظمه قائما حتى الآن.. حصار شامل في كل المجالات وبحرب مفروضة استمرت أكثر من ثماني سنوات الحقت بإيران خسائر فادحة على كل الاصعدة، كما كانت حرب المنظمات المسلحة المعارضة تطال قيادات كبيرة في الثورة الايرانية.. لقد بلغ الحصار مداه في التأثير في الدولة الوليدة.. الا ان لياقة رجالاتها وتشبثهم بمشروعهم قادهم الى الاستماتة دون سقوطها.. فواجهوا الحرب والحصار ولم يكن سهلا تصور امكانية خروج الدولة الايرانية من هذه المطحنة الرهيبة سالمة وبلا تشوهات او جراح..
هنا يصبح الحديث عن تعامل الدولة الايرانية اكثر الى الموضوعية وبعيدا عن القسوة والتنطع.. وعند فتح الملفات نكتشف ان هناك ما يمكن اعتباره التزاما بالثورة وبعضها ما يمكن اعتباره التزاما بمصلحة الدولة .. ومما لاشك فيه ان لا قيمة للثورة بدون دولة تحمل مبادئها وتحمي مشروعها.. الا ان هناك خطا دقيقا فاصلا يجعل من الدولة خصما للثورة ان هي تجاوزت مبادئها في الاطر الاستراتيجية من المواقف.. فمثلا الوقوف ضد الكيان الصهيوني مثل معيارا واضحا للسياسة الايرانية في تحالفاتها واصطفافها، وهذا ما يجعلنا نتفهم الموقف الايراني من سوريا وحزب الله عندما كان النظام السوري يدعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية وهي في هذا يكون من الصعب عليها التخلي عن النظام السوري الذي كان بمثابة الباب الوحيد ضد الحصار على ايران.. ومن المفهوم تماما ان تحاول ايران ازاحة الاحتلال الامريكي من العراق وعدم السماح لتشكل نظام عميل للامريكان بجوارها لأنه حينذاك سيجدد الحرب على ايران بشكل اكثر عنفا وبطريقة اكثر منهجية.. وهنا كان الامر ملتبسا لدى كثيرين حيث لعب الامريكان بالمكون العراقي فقربوا جهة وابعدوا جهة ثم غيروا المواقع وبعثروها وغيروا وبلوا في ولاءات السياسيين العراقيين فاضطرب الامر امام القاريء والمتابع فكان المستنقع العراقي ساحة اشتباه في الموقف الايراني الذي كان يتحرك في حقل الغام ولكن المهم كان امام ايران اخراج الامريكان من العراق ثم منع الانفصال بين الشيعة والسنة ومنع الانفصال الكردي.. كما ان الشأن اليمني أثار تساؤلات عديدة لدى كثير من المتابعين حيث انه من المفهوم بلا شك ان تطرد ايران النفوذ الاسرائيلي من باب المندب والبحر الاحمر، بعد ان اصبح لاسرائيل جزر عديدة في المكان تجهزها لادوار امنية استراتيجية وايضا من العبث ان يترك اليمن لدور يمكن من التفرد الامريكي في المنطقة ولكن يرى الناقدون ان يجب ان لايكون على حساب التركيب السياسي والاجتماعي في اليمن بتغليب فئة على فئات اخرى.. ولكن في كل ما سبق من ملاحظات في الملفات الملغمة مبررات للدولة الايرانية وليس من الضرورة ان تكون في محل الاستحسان لدى المسلمين، لأن الحسابات هنا دقيقة وتحتاج ادراك واحاطة، وهنا تتجلى القضية الفلسطينية وملفها الكبير: اين تقف ايران الثورة والدولة؟ ولعله الملف الوحيد الذي لم يحدث فيه الانفصام ولو جزئيا بين الثورة والدولة، وهو ملف حقيقي لم تقبل فيه ايران أي مساومة، وهذا يكشف جوهر السياسة الايرانية وحقيقتها..قد لايكون كافيا لكنه ليس منحرفا ولا مساوما..
من هنا وعلى هذه القاعدة يجب النظر الى الأحداث في ايران فبعضها محق بلاشك وهو مايدور حول شروط المعيشة والحريات السياسية والصحفية اذ نحن نتحدث عن بلد عريق وحضاري تتوارث فيه الثقافة باصنافها ليس كما هو الحال بدول الموز العربية التي لامنبر معارض فيها او كلمة مخالفة او حق لتشكيل حزب مناوئ بأفكاره.. ولكن تفحص شعارات بعض التظاهرات في ايران تشير الى الارتباط بالمخطط الامريكي بتقويض الثورة او تفجيرها وعلى الاقل حرفها عن خطها السياسي في دعم فلسطين ولبنان من جهة والدعوة الى نظام ليبرالي مرتبط مع الغرب الاستعماري كما نادى البعض بعودة ابن الشاه..
المحاذير الان ان تجد الدولة ضرورة الى حسم قاس فتتضاءل مساحة الحريات و تحصل انتكاسة في احد اهم مباديء الثورة وهي حرية الشعب وكرامته.. ذلك لان الاحتجاجات العنفية والتي تستهدف الثورة ومؤسساتها يستدعي نوعا من انواع الديكتاتورية.. والامر بهذا يتطلب تدخلا قويا من قبل قيادة الثورة من علمائها ومفكريها بضرورة لجم الدولة عن التغول وتقديم ضمانات حقيقية لتقريب المسافات بين الناس والدولة كما انه يتطلب حزما قويا في مواجهة المرتبطين بالمشروع الاستعماري الغربي مروجي الفتنة ومشجعي العبث والفوضى..فنجن نحتاج قوة ايران معنا في مواجهة التحديات التي تريد استئصال دور امتنا وتحطيم فرص النهضة والوحدة وتحرير فلسطينها..تولانا الله برحمته.
بقلم:صالح عوض