شاءت العناية الإلهية أن أُولد – مثل كثير غيري – في الأوراس معقل “الشاوية”، وهو شيء أعتزّ به، ومثل هؤلاء الشاوية لديّ انتماء واحد هو الإسلام ولغة واحدة هي العربية وأرض تلتئمنا جميعا هي الجزائر، وبناء على هذا خلت منطقتنا من النعرات الإثنية والعصبيات الجاهلية، أما اللسان الشاوي فهو لهجة محلية فيها أوجه شبه واختلاف مع لهجات بلاد القبائل ووادي ميزاب ونحوها، يستعملها بعض الناس في التواصل الضيّق فيما بينهم بلا عقدة لا منها ولا من العربية، وشتان بين اللغة الجامعة واللهجة المحلية، وقد حاولت أصوات الشقاق الامتداد إلى الشاوية منذ مدة -خاصة بعد تجربة الديمقراطية في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات – لكن الأقحاح من الرجال والنساء وعامة الناس كانوا لها بالمرصاد فخرصت لأنها لم تكن دعوة بريئة بل هي كما يعلم الجميع جزء من مخطّط قديم متجدّد يستهدف ثوابت الشعب في إطار سياسة فرّق تسُد، بدأ برفع شعارات الحقوق الثقافية لينتهي إلى تجزئة المجزّأ وتقسيم القسّم بخلق كيانات صغيرة وهويّات مصطنعة هزيلة يسهل معها التحريش والاستفزاز لابتلاعها جميعا.
أنا شاوي لم أرَ في حياتي كلها ولم أسمع ولو مرّة واحدة أحدا يهمّش اللهجة المحلية كما لم أر ولم أسمع أحدا يرفعها إلى مقام اللغة الوطنية أو يطالب بذلك (إلا رجلا “سياسيا” يبدو لي أقرب إلى الخبال خاض في الأمر أثناء فترة الديمقراطية المقبورة فما التفتَ إليه أحد وطواه النسيان) بل رأيت الجميع ينضوون تحت ظلال الشعار الخالد: “الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا”، ويردّدون مع صاحبه الإمام ابن باديس رحمه الله: “شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب”.
أنا شاوي ورغم ما يُقال عنّا من “خشونة الرأس” فإني متفتّح على اللغات والثقافات والأفكار التي تعجّ بها الدنيا فلم يُغرِني شيء من ذلك بترك لغتي العربية ولا ديني الإسلام ولا وحدة شعبي من أجل دعوات اكتشفتْ منذ 50 سنة فقط أن للجزائر لغة أخرى أو دينا آخر أو تاريخا آخر !
كم أتمنى أن أتعلّم أنا وأبنائي وأحفادي مزيداً من اللغات لكنها لغات حيةّ لا ميّتة ولا لهجات محلية هي محترمة على كل حال لكنّها تبقى لهجات كما هو الشأن في كلّ بلاد العالم، ولأنها لهجات من جهة ومحلية من جهة أخرى فلا يمكن أن تكون قاسما مشتركا بين شعب كبير فضلا عن أن تحلّ محلّ اللغة العربية…لأن هذا هو بيت القصيد: إحلالها محلّ العربية ضمن خطّة تكتم غاياتها ومآلاتها، ليخلو الجوّ في النهاية ليس لهذه اللهجة أو تلك وإنما للفرنسية التي يحيا عليها “القوم” ويموتون، هي حبّهم وهيامهم، ومنتهى آمالهم أن تكون هي سيدّة الموقف في بلد هزيل يسبّح بحمد فولتير وجان دارك وإيديت بياف، إنهم ليسوا مع هذه اللهجة أو تلك “اللغة” ولكن مع انتصار حرف “غ” – الغين – الذي تفرّدت به فرنسا على حرف الضاد الذي لا يحمل مجرّد لغة لكن شعيرة من شعائر الإسلام ووسيلة من وسائل التواصل العالمي، وأتساءل: كيف يخفى هذا الأمر الواضح على بعض إخواننا الطيّبين الذين يحبون الإسلام ويكرهون العربية، أو “يسمحون” للعربية بالتواجد على أن تُحشر في الزاوية الضيقة لصالح “اللغة الأصلية” للجزائريين؟ العربية هي لغتنا الأصلية على أنقاض لهجات محلية لا يحاربها أحد إلاَّ من لديه أغراض أخرى تحركها السياسة الناقمة على ثوابتنا فهو يوظفها لأغراضه.
لم تقدر العشرية الحمراء -لا أعادها الله علينا – على تفتيت الجزائر وخلق كيانات متناقضة في وسطها وأطرافها رغم محاولات حثيثة تغذيها فرنسا وتؤطّرها، وعجزت عن ذلك فرنسا ذاتها طيلة فترة الاحتلال، كما انقشعت بسلام غيوم “الأزمة البربرية” في أواخر أربعينيات القرن العشرين بفضل رصانة أقطاب الحركة الوطنية ويقظة الشعب الذي قد يفرّط في شيء من أرضه تحت الضغط لكنه لا يفرّط في ثوابته مهما كانت الضغوط…
مهما يكن من أمر فأنا الشاوي سأبقى أطلق على أبنائي وأحفادي أسماء عقبة وحسان وعبد الحميد وعبد القادر وفاطمة وألقّنهم اللسان العربي بالإضافة إلى الإنجليزية ونحوها من اللغات الحية كما أشبعهم بفكرة الأمة الواحدة الكبيرة المترامية الأطراف بدل الحدود التي رسمها الاستعمار فضلا عن تلك التي يقيمها أتباعه في البلد الواحد نكاية في الدين واللغة والتراث ووحدة الشعب.
إذا طالب بعضهم – وفيهم مع الأسف من يفعل ذلك عن حسن نية وربما كان عرضة لغسيل المخّ – بترقية اللهجات الأصلية المتعدّدة إلى مصافّ اللغات الرسمية فإني أطالب بمزيد من العناية بالعربية وحسن تدريسها وإنهاء تهميشها لصالح الفرنسية.
وإذا تغنّوا بالشنشنة المشروخة عن العِرق الجزائري وأصالته فأنا الشاوي لن انخدع بمثل هذه الشعارات المعسولة وأبقى متمسّكا بالإسلام دينا والعربية لغة وطنية رسمية وبهذه البلاد الطيبة وطنا ضمن الأمة الواحدة الكبيرة التي لن أتنكّر للانتماء إليها لصالح انتماء اجتُثّ من الأرض ما له من قرار أنشأته السياسة وحدها…وأعلم أن رأيي هذا هو ما عليه أغلبية الجزائريين وعلى رأسهم الشاوية وأصلاء القبائل وبني ميزاب.
إننا أمام الثمار المرّة لما زرعته ألعلمانية المتطرّفة والشوفينية المقيتة في ظلّ غياب الديمقراطية وإسكات صوت الشعب وشغله بالمشاكل الحياتية، فماذا يكون عليه الأمر لو أُخِذ برأي الشعب حقا بعيدا عن الاستفتاءات المطبوخة والانتخابات المزوّرة؟ أتحدّاهم أن يفعلوا ذلك إن كانوا متأكّدين من احتضان الشعب لهذه “اللغة”، وأعلم أنه لو كان باستطاعتهم لرسّموا الفرنسية بنصّ الدستور كما هو الحال في تشاد وغينيا والنيجر.
أنا شاوي لكني لستُ شيئا إلاّ بالإسلام والعربية.