بقلم : أ. د. علي ملاحي
عبدالله مناعي او المناعي ..الفنان المجيد الذي يستحق التمجيد .. موقف يخالجني كثيرا .. وأنا أتصفح أيقونات الفن الجزائري .. أشعر بخجل أمام قامة فنية تنحني لها الأسماء والألقاب ..وتتباهى بها المواقع الفنية الأصيلة ..
الحقيقة الدافئة في أذهاننا ، والتي لابد من الاعتراف بها ، ان عبدالله مناعي قدم بجهود ذاتية جد محدودة ، ما يحتاج الى تمجيد فني يفوق كل التصور ، وتمكينه من أن يكون على درجة من الكرامة حق لا نقاش فيه .. حق ليس لشخصه فحسب ، بل المقصود هو الاقرار الرسمي بمدرسته الفنية التي يجب أن تتأسس في وجودنا الفني ، خاصة أنه على قيد الحياة ، وبوسعه أن يسهم في ذلك عن قرب .. ولا أرى ان الأمر يستدعي جهدا كبيرا ، لأن هذه المدرسة من شأنها أن يتكون ويتدرّب عليها فنيا وصوتيا كل المهتمين بالطابع الفني الصحراوي عموما ، وفن عبد الله مناعي بشكل خاص ، لأنه تركيب فسيفسائي على درجة من القوة والموهبة والعبقرية الربانية المدهشة ، والتي تحتاج الى تمرّس متواصل للتمكن من تأدية أغانيه صوتا وأداء وايقاعا ونبرا وموسيقى وحركات وانسجام وانصهار وتكامل بين مختلف مكوناته الفنية النادرة ..
مدينة وادي سوف ، التي استمد منها عبدالله مناعي وجوده الجمالي الفني ، ليست قاصرة ، وما تمتلكه من حس فني ، يجعلها قادرة على تبني التجربة بجدارة واستحقاق ، بقليل من الشجاعة ، وأنا لا أقول هذا الموقف ادعاء ، بقدر ما أقوله عن دراية مؤسسة ، متوفرة في هذا الكم الهائل من المبدعين والفنانين والجمعيات الثقافية والفكرية ، ناهيك عن القامات العلمية الجادة في جامعة وادي سوف ، والتي تمتلك الكفاءة في الانصهار فنيا ومعرفيا في مدرسة اسمها : ( مؤسسة عبدالله مناعي الفنية ).. والكلمة في البدء للمبدعين والمثقفين واساتذة الادب الشعبي بوجه خاص .
نبرة الصوت لدى عبدالله مناعي مدرسة ، والغيطة لديه مدرسة ، والنفس الايقاعي بالطريقة اوالتقنية التي يؤديها مدرسة ، الوقفة وهو يرسل صوته مدرسة ، حركاته الدرامية المرافقة للأداء الموسيقي مدرسة ، الايقاع الموسيقي للغيطة وكيفية الاسترسال والامتداد والخفوت والصعود مدرسة ، انطلاقته الصوتية المرسلة من فمه ومن حنجرته أشبه بالأنشودة النادرة التي ترتبط روحيا بالمستمع وتفتح وجدانه وتحقق له نشوة داخلية هي أيضا مدرسة ..الانسجام بين الصوت والجسد في الاداء الفني الموسيقي مدرسة . ولكم في أغنيته : ( على ولد الخالهْ …) خير دليل ، والأبلغ في الأمر ان نبرته الصوتية هي مدرسة ، خاصة عندما يقرأ أغنيته شعرا قبل الاداء الموسيقي ، وهو في كل ذلك عندما ينطلق في موسيقاه تحسبه فارسا في الفيافي ، او كأنك أمام فرقة فرسان وليس مجرد صوت واحد ..
ان أغنية عبدالله مناعي ( يا بْنَيّة ْ العرجون ) هي في كليتها مدرسة ، وأغنيته : والله والله يا غليّهْ ) مدرسة ، يدفعني هذا الموقف الى التأكيد : ان رصيد عبدالله مناعي ليس مجرد تراث فني عابر او عادي ، انما هو روح فنية فذة متجذرة فينا نحن الجزائريين لأنها تشعرنا بالانتصار والنشوة التي لا نجدها في فن موسيقي آخر ، لأنها تنسجم معنا وتعبر عن حاجتنا الوجدانية بوضوح ورقة ودفء ، لا نلمسه في الفنون الموسيقية الاخرى ، وأنا هنا لا أصادر الحق الفني لغيره من الفنانين ولا ذوق الجمهور الواسع ، لكنني أحب أن أزكي جدارة عبدالله مناعي لدى العائلات الجزائرية الواسعة ، ولا أقصر الامر على العائلات الكبرى في صحرائنا فقط ، لما فيها من جاذبية وتأثير على الحس الريفي او البدوي بشكل خاص . ولا أدعي اذا قلت بإنصاف : أغانيه تهذيب قوي للنفس ، وتنفيس جمالي عن القلب . ولا أملك الا ان أجزم : ان عذوبة التموجات الصوتية لديه هي أكبر من أن توصف بالكلمات ..هكذا ببساطة ..وعفوية ..انها تحتاج الى دراسات علمية متخصصة دون تحفّظ او تردّدّ .
بكل استحقاق ، فان الآهة التي يطلقها عبدالله مناعي دواء نفسي ، وأزعم ان صوته جدير بأن يستخدم بصفة علاج لكثير من حالات القنوط والانطواء لأنه يفجّر المشاعر الداخلية ويحفّزها على الظهور ، ويعطي للمتتبّع احساسا بالنشوة والانطلاق ، ويشجع على رقص المشاعر قبل الأعضاء . ، يساعده في ذلك صوته حين يمتد وحين يخفت بطريقة جذلى ، وهو في وجدانه الموسيقي مشحون بفلسفة فنية خاصة ، شبيهة بصرخة الطفل الاولى ، انها لحظة تفتّق كبرى عميقة .مفعمة بحرارة الروح : ” المشيهْ اظريفهْ ” ، ” يا كامْلة ْالزّينْ ” ، من قالّكْ حبَّيني ..”. أقولها بشكل جمالي : عندما تستمع الى عبدالله مناعي ، تشعر بفرح داخلي وانسياب ، كما تشعر بحزن جميل متدفق ، دافئ يشعرك كأنك تسير في طريق ممتد طويل منساب وعذب .. وقد كان أداؤه القوي الذي جمعه بالفنانة الفاتنة العربية هيام يونس تاريخيا في زئبقيته ، فقد بدا كأنه نسيم عليّل في انسجامه الطفولي مع انسيابية صوت هيام يونس التي بدت عليها بدورها علامات الحب الفني العظيم احساسا وايقاعا ونبضا وكلمة الى درجة الافتتان ..وكان تجاذبها مع أوتاره الصوتية شيئا هائلا الى حد الادهاش .. تلاعباَ بنا بذكاء ومهارة على نحو واضح بالإيقاع والنفس الموسيقي والاداء الجسماني ، وكان هدفهما الاعلان عن اللحن العربي السليم ذوقا ونبرا واصالة .
عبدالله مناعي الذي اختصر انتماءه وهويته فنيا بقوله : ” الجزائر هي بلادي والوادْ هي عنواني ” يؤدي فنه بقلب العاشق المؤمن بفنه ، وهذا شيء مهم ، لأنه لا يقدم فنه لمجرد التسلية ، وشهقاته وتأوهاته التي يرسلها في أشكال فنية متعددة تشير الى طبيعة ملكته الواعية بكل شيء ، ولعلي لا أبالغ اذا قلت ان تأديته لأغنيته الشهيرة : ” يا بْنيّةْ العرجون ” رفقة الفنان التونسي شكري عمر الحناشي تعطي للشعور الجزائري التونسي دفقا نادرا في الألفة والحب والسمو والاخوّة بما يعطي انطباعا قويا بإحساس القلب الواحد والمشاعر الواحدة . وأستغرب هنا كيف للسينما في الجزائر وحتى في تونس لم تستغل قدراته الفنية الدرامية ، لتحوِّلها الى مواقف غاية في التأثير والانسجام . لما يملكه من موهبة عميقة في الاداء الجمالي .
عبدالله مناعي في صعود صوته وانخفاضه ، في امتداده وانبساطه ، في اشتعاله وانطفائه ، تكمن عبقريته الفنية وتكمن قوة صوته الجهوري الذي يطرب القلب ، ولو كانت الظروف كريمة ، لكان عبدالله مناعي مثله مثل عبدالحليم حافظ عند اخواننا في مصر ، وسيكون من الكرم الحضاري اذا سارعت الجهات الثقافية وحتى على أعلى مستوى ، الى رفع همته ..اننا كمجتمع فني بحاجة اليه والى صوته في حياتنا ، ونحن هنا لا ننكر حق الفنانين الاخرين في الجزائر مثل آيت منقلات او خليفي احمد او رابح درياسة وغيرهم ، ولكننا نريد أن نقول ان عبدالله مناعي ظاهرة فنية لها خصوصيتها الفنية التي لا يمكن ان تتكرر ببساطة . .في وطن أغلب عائلاته بدوية الى حد كبير. .
عبدالله مناعي خلف نظارته ، وبرنوسه ، وحركاته الدرامية ، وحتى فطسة رأسه وعمامته البيضاء وفي صوته السحري المبهج رجل مبدع بكل المعاني ، وهو ليس فنانَ مرحلة ، وليس مجرد طبعة وانتهت ، وسيكون التاريخ قاسيا علينا – بصفتنا مثقفين- اذا لم نسارع لاستعادة وتمكين فنه من الحضور المتواصل ، وهو على قيد الحياة ، نرفع الفكرة الى كل المخلصين للإعلان عن مبادرة تليق به ..وبالجزائر بوصفها بلد العبقريات الخالدة .